د. جابر نور
أن الغلو له ألوان كثيرة، فهو قد يتعلق بفقة النصوص ويكون ذلك بتفسير النصوص تفسيراً متشدداً يتعارض مع السمة العامة للشريعة، ومقاصدها الأساسية، أو بتكلف التعمق في معاني التنزيل، لما لم يكلف به المسلم. وقد يتعلق الغلو بالأحكام. ومن صور ذلك إلزاما النفس أو الآخرين بما لم يوجبه الله عزوجل على وجه التعبد، أو بترك الضرورات أو بعضها كالأكل والشرب والنوم والنكاح، فتركها يُعتبر غلواً. لافتاً إلى أن الغلو في العبادات، وإن كان منشؤه الرغبة العميقة لدى المؤمن في الإكثار من القربات، وهي وإن كان أصلها مشروعاً ومرغباً فيه، غير أنه حين يخرج فاعله عن حد القصد والاعتدال، فإنه يدخل في حد الغلو.
- الجهل في مقدمة أسباب الغلو:
من أكبر اسباب الغلو، الجهل بأصول الإسلام وقواعده، والجهل بمقاصد الشريعة. فحفظ النصوص من غير فهم وفقه، والابتعاد عن مجالسة العلماء المربين، ومن لهم أقدام راسخة في العلم، سبب مباشر لظهور الغلو وانتشاره.
ولذلك نجد أن الشريعة فضّلت العالم على العابد بمراتب. فالعالم يهدي الله به أمة، يعصمَها بسببه من الوقوع في فتن عظيمة، أما العابد فصلاحه لنفسه، ولذا جاء في الحديث: "فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب". وجاء أيضاً في الحديث: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في حُجرها وحتى الحوت ليصلّون على معلّم الناس الخير". ولذلك قيل: فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد.
الجهل بيسر الشريعة وسماحتها
إن من أعظم مقاصد الشريعة اليسر والتيسير على الناس ورفع الغلو عنهم. والمغالي في الدين مُعرض عن هذا المقصد العظيم لقيام الغلو على التشديد والإثقال. فالمغالي إما أن يغلو على نفسه وغيره بأن يتشدد بأن يتخذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب أو المستحب، أو باتخاذ ما ليس بمحرّم ولا مكروه بمنزلة المحرم أو المكروه في الطيبات. وهو بهذا مخالف لهذا المقصد العظيم مقصد اليسر والتيسير.
- سوء الفهم:
إن صحة الأحكام المأخذوة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، مرتهنة بحسن الفهم لتلك الأحاديث. ولقد أتى البعض من سوء الفهم للنصوص إما لعدم فهم معاني ألفاظها من جهة اللغة، أو من جهة عدم فهم معانيها في استعمال الشارع، وكان هذا سبباً رئيسياً من أسباب ضلالهم.
- الاستعلاء بالطاعة:
لقد ذمَّ الإسلام الكبر وأهله والاستعلاء وأصحابه. قال الله تعالى (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص/ 83)، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقبة المتكبرين، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر".
وقد ابتُليت طائفة من الغلاة بالكبر والاستعلاء عندما أقبلوا على عبادة الله الظاهرة وأكثروا منها، لكن فاتهم مراقبة نفوسهم وتهذيبها وتزكيتها، فتسلل إليهم الكبر والاستعلاء.
- اتباع الهوى:
من أخطر الأمور في الدين، اتّباع الهوى وتطبيق الدين على الطريقة التي توافق مزاج الإنسان وهواه، قال تعالى (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (القصص/ 50).
من أضرار الغلو الاستدراك على الشريعة
إن من سمات هذه الشريعة كمالها وشمولها، يقول الله تعالى (...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا...) (المائدة/ 3). وليس أحد يبتدع في الدين ويغلو، إلا وفي غلوه وابتداعه تجرؤ على الشريعة، فكأنه يزعم أن الدين غير تام.
- السآمة والملل:
من أضرار الغلو في العبادة أيضاً أنه يورّث السآمة والملل والانقطاع عن العمل، في حين أن الدوام على الأعمال الصالحة مقصد من مقاصد الشريعة وهدف من أهدافها العامة. وإذا كان هذا هو قصد الشارع، فإنه يشرع للعبد أن يوافق قصد الشارع، فإذا عمل عملاً من الطاعات كان مشروعاً له أن يداوم عليه، ويجعل قدره، قل أو كثر، بحسب ما يعرفه من نفسه من القدرة على المداومة، فالدائم فاضل محبوب لله حتى وإن كان قليلاً. وذلك لأن العبد بدوام العمل القليل، تدوم طاعته لربه فيزداد أجره. أما المكثر المنقطع فيصر إلى قلة في العمل ومن ثم قلة في الأجر. وهذا واقع الناس فما يزيدون على انفسهم إلا ويعجزوا ويغلبوا فينقطعوا.
ونحد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين يُسر، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا". أمر بالسداد والمقاربة، وهو أمر بالتوسط من غير إفراط ولا تفريط، بأن يعمل الإنسان بالعمل الدائم، وإن كان قليلاً، ولا يكثر على نفسه من العمل فيملّ ويسأم، ثم ينقطع. وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "أدومها وإن قل" وقال: "اكلفوا من الأعمال ما تطيقون".
وقد وقعت جملة من الحوادث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان فيها تشديد بعض الصحابة رضوان الله عليهم على أنفسهم، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفعل، وعلَّل النهي بأن الانقطاع والسآمة والملل مصير المثقل على نفسه المتشدد عليها، الموغل في العبادة.
- إيقاع الخلل في النفس:
إن مقاصد الشريعة الرئيسية اليسر ورفع الحرج عن الناس، والأدلة على ذلك كثيرة في الكتاب والسنة.
وإذا كان هذا هو قصد الشارع، فإن من الواجب على المكلف أن يكون مقصده موافقاً لمقصد الشارع، فلا يجوز له قصد المشقة، لأن فيها مخالفة للشارع.
- تضييع الحقوق:
إن الغلو لا يخلو من جور على حقوق أخرى يجب أن تراعى، وواجبات يجب أن تؤدي، وما أصدق ما قاله أحد الحكماء: ما رأيت إسرافاً إلا وبجانبه حق مضيع. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو، حين بلغه انهماكه في العبادة انهماكاً أنساه حق أهله عليه: "ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟". قال عبدالله بن عمرو: فقلت: بلى يا رسول الله. قال عليه الصلاة والسلام: "فلا تفعل. صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزَورك "ضيوفك" عليك حقاً، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله". فشددت فشُدد علي، قلت: يا رسول الله: إني أجد قوة، قال: "فصم صيام نبي الله داود ولا تزد عليه" قلت: وما كان صيام نبي الله داود ؟ قال عليه الصلاة والسلام: "نصف الدهر". فكان عبدالله يقول بعد ما كبر : ياليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم".
- علاج المغالاة:
إن علاج مشكلة الغلو مهمة تشترك فيها جميع شرائح المجتمع، لأن هناك تدابير عديدة يلزم اتخاذها لعلاج الغلو، ومنها الاهتمام بإحياء دور العلم ونشر العلم الشرعي، فهذا من شأنه أن يُكسب المجتمع حصانة من مظاهر الغلو في غيره من المشكلات، لأن المتأمل في مظاهر الغلو في العصر الحديث، يتبين له ان تلك المظاهر خارجة على المعتقد الشرعي الصحيح، وعليه فإن تصحيح العقيدة يحقق للمجتمع الحصانة من الغلو، ويكون ذلك بالاعتقاد الصحيح والإيمان السليم بما جاء في الكتاب والسنة، وبما كان عليه اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون والأئمة المجتهدون، الذين تلقوا الشريعة المطهرة من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.