أنفاس معدودة
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعاً، وخط خطا في الوسط خارجاً منه، وخط خططاً صغراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، فقال: (هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به- أوقد أحاط به - وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا) البخاري.
وقال القرطبي: (وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم ، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم، وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك، مستعداً لذلك).
وكان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة: الرحيل الرحيل. فلما توفي فقد صوته أمير المدينة، فسأل عنه فقيل: إنه قد مات فقال:
ما زال يلهج بالرحيل وذكره ... حتى أناخ ببابه الجمال
وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: (ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى ربك عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟مَن الموت طالبه .. والقبر بيته .. والتراب فراشه .. والدود أنيسه .. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر .. كي يكون حاله؟ ) ثم يبكي رحمه الله.
بينا الفتى مرح الخطا فرح بما ... يسعى له إذ قيل قد مرض الفتى
إذ قـيـل بـات بلـيلـة مـا نامـها ... إذ قيـل أصـبـح مثخـنا مـا يرتـجى
إذ قيل أصبح شاخصا وموجها ... ومعـللا إذ قيــل أصبـح قـد مـضى
وقال التميمي: (شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى).
وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يجمع العلماء فيتذكرون الموت والقيامة والآخرة، فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة!!
وقال الدقاق: من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العبادة)
وقال الحسن: (إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا عشياً لا موت فيه)
موعظة
فتفكر يا مغرور في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، ومن حاكم ما أعدله. كفى بالموت مقرحاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقاً للجماعات، وهاذماً للذات، وقاطعاً للأمنيات.
فيا جامع المال! والمجتهد في البنيان ! ليس لك والله من مالك إلا الأكفان، بل هي والله للخراب والذهاب، وجسمك للتراب والمآب، فأين الذي جمعته من المال؟ هل أنقذك من الأهوال؟ كلا .. بل تركته إلى من لا يحمدك، وقدمت بأوزارك على من لا يعذرك.
ولقد أحسن من قال في تفسير قوله تعالى : (ولا تنس نصيبك من الدنيا) القصص: 77 هو الكفن، فهو وعظ متصل بما تقدم من قوله: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة) القصص:77 أي اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة، فإن حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة، لا في الطين والماء، والتجبر والبغي، فكأنهم قالوا: لا تنس أن تترك جميع مالك إلا نصيبك الذي هو الكفن.
فيا أخي الحبيب :
أين استعدادك للموت وسكرته؟
أين استعدادك للقبر وضمته؟
أين استعدادك للمنكر والنكير؟
أين استعدادك للقاء العلي القدير؟
وقال سعيد بن جبير: (الغرة بالله أن يتمادى الرجل بالمعصية، ويتمنى على الله المغفرة).
الأسباب الباعثة على ذكر الموت
سكرات الموت وشدته
أخي المسلم:
إن للموت ألماً لا يعلمه إلا الذي يعالجه ويذوقه، فالميت ينقطع صوته، وتضعف قوته عن الصياح لشدة الألم والكرب على القلب، فإن الموت قد هد كل جزء من أجزاء البدن، وأضعف كل جوارحه، فلم يترك له قوة للاستغاثة أما العقل فقد غشيته وسوسة، وأما اللسان فقد أبكمه، وأما الأطراف فقد أضعفها، ويود لو قدر على الاستراحة بالأنين والصياح، ولكنه لا يقدر على ذلك، فإن بقيت له قوة سمع له عند نزع الروح وجذبها خوار وغرغرة من حلقه وصدره، وقد تغير لونه، وأزبد، ولكل عضو من أعضائه سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة، حتى تبلغ روحه إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها، وتحيط به الحسرة والندامة إن كان من الخاسرين، أو الفرح والسرور إن كان من المتقين.
قالت عائشة رضي الله عنها: كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يده في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت سكرات) البخاري وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند موته: (اللهم أعني على سكرات الموت) أحمد والترمذي وحسنه الحاكم. والسكرات هي الشدائد والكربات.
وتشديد الله تعالى على أنبيائه عند الموت رفعة في أحوالهم، وكمال لدرجاتهم، ولا يفهم من هذا أن الله تعالى شدد عليهم أكثر مما شدد على العصاة والمخلطين، فإن تشديده على هؤلاء عقوبة لهم ومؤاخذة على إجرامهم، فلا نسبة بينه وبين هذا.
يا كثير السيئات غداً ترى عملك، ويا هاتك الحرمات إلى متى تديم زللك؟ أما تعلم أن الموت يسعى في تبديد شملك؟ أما تخاف أن تؤخذ على قبيح فعلك؟ واعجبا لك من راحل تركت الزاد في غير رحلك!! أين فطنتك ويقظتك وتدبير عقلك؟ أما بارزت بالقبيح فأين الحزن؟ أما علمت أن الحق يعلم السر والعلن؟ ستعرف خبرك يوم ترحل عن الوطن، وستنتبه من رقادك ويزول هذا الوسن.
قال يزيد بن تميم : (من لم يردعه الموت والقرآن، ثم تناطحت عنده الجبال لم يرتدع !!
رسل ملك الموت
ورد في بعض الأخبار أن نبيا من الأنبياء عليهم السلام قال لملك الموت: أما لك رسول تقدمه بين يديك، ليكون الناس على حذر منك ؟ قال : نعم، لي والله رسل كثيرة: من الإعلال، والأمراض، والشيب، والهموم، وتغير السمع والبصر.
وفي صحيح البخاري عن أبى هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعذر الله إلى امرئ بلغة ستين سنة)
وأكبر الأعذار إلى بني آدم بعثة الرسل إليهم، ليتم حجته عليهم كما قال سبحانه: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) الإسراء: 15 وقال سبحانه: (وجاءكم النذير) فاطر: 37 قيل: هو القرآن وقيل: الرسل وقال ابن عباس: هو الشيب.
كيف ماتوا ؟
أخي الحبيب :
اعلم أن حسن الخاتمة لا تكون إلا لمن استقام ظاهرة وصلح باطنه، أما سوء الخاتمة فإنها تكون لمن كان له فساد في العقل، أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، فربما غلب عليه ذلك حتى ينزل به الموت قبل التوبة، أو يكون مستقيماً ثم يتغير عن حاله، ويخرج عن سننه، ويقبل على معصية ربه، فيكون ذلك سبباً لسوء خاتمته، والعياذ بالله .
صور من سوء الخاتمة
قيل لرجل عند الموت: قل لا إله إلا الله، وكان سمساراً، فأخذ يقول: ثلاثة ونصف.. أربعة ونصف.. غلبت عليه السمسرة.
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا وكذا، والبستان الفلاني أعملوا فيه كذا، حتى مات.
وقيل لأحدهم وهو في سياق الموت: قل لا إله إلا الله، فجعل يغني، لأنه كان مفتوناً بالغناء، والعياذ بالله.
وقيل لشارب خمر عند الموت: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: اشرب واسقني نسأل الله العافية.
صور من حسن الخاتمة
دخل صفوان بن سليم على محمد بن المنكدر وهو في الموت فقال له: يا أبا عبد الله! كأني أراك قد شق عليك الموت، فما زال يهون عليه ويتجلى عن وجه محمد، حتى لكأن وجهه المصابيح، ثم قال له: لو ترى ما أنا فيه لقرت عينك، ثم مات .
وقال محمد بن ثابت البناني: ذهبت ألقن أبي وهو في الموت فقلت: يا أبت! قل لا إله إلا الله. فقال: يا بني، خل عني، فإني في وردي السادس أو السابع!!
ولما احتضر عبد الرحمن بن الأسود بكى . فقيل له: مم البكاء؟ فقال: أسفاً على الصلاة والصوم، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات .
وسمع عامر بن عبد الله المؤذن وهو في مرض الموت فقال: خذوا بيدي إلى المسجد، فدخل مع الإمام في صلاة المغرب، فركع ركعة ثم مات رحمة الله.