بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جَمَّل بجمال نوره أنوار قلوب أوليائه، وسقاهم من كأس محبَّته سقاء سره فأُطعموا كأس لذيذ شرابه، فتطيبت أسرارهم بطيب ثنائه وجميل أفضاله، تولاهم وسقاهم مَا فِيهَا فأحيا قلوبهم بذكره. أحمده حمداً يبلغ منتهى رحمته ورضوانه، و أشكره شكراً لزيادة من نِعَمه وإحسانه، وله الفضل اعترافاً بأياديه وامتنانه، وصلى الله على سيدنا محمد من أُنِير به الوجود، فهو شمس الدراية، و قمر الهداية، وكوكب العناية، النبي الأميّ الهاشميّ الأبطحيّ المكيّ المدنيّ الهادي المهديّ، السّراج المضيء، والقمر المنير، التقيّ النقيّ، وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار، السادة الأطهار، المقسطين الأبرار، وعلى أصحابه الذين ساروا على منهاجه ومِلَّته، وفازوا بطاعته ومنَّته، وسلم تسليماً كثيراً. وبعد فيقول المفتقِر إلى الملك المنَّان ابن السَّمطا الشريف من آل بحر، جعل الله لنا الحسنى وزيادة، وغفر لنا ولوالدينا، وأحسن إلينا وإليكم، وكشف الغمَّ ودفع البلاء عنَّا وعنكم.فالسعيد من وُعِظ بحال الرجال فسار على طريق الأخيار، ومنهم الإمام المرضيّ، والورع الدريّ أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهبة بن أبي بن عبد الله بن منقذ بن نصر بن الحارث بن ثعلبة بن عامر بن ملكان بن ثور بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان رضي الله تعالى عنه، كانت له النُّكت الرائقة والنُّتَف الفائقة، مُسَلَّم له في الإمامة، ومثبَّت به الرعاية، العِلم حليفه، والزهد أليفه. وقيل: إن التصوف براعةٌ في المعارف، وبلاغةٌ في المخاوف. وُلد في خراسان، سنة سبع وتسعين في خلافة سليمان بن عبدالملك. والد سُفْيان الثَّوري: هو المحدِّث الصادق سعيد بن مسروقٍ الثَّوري، وكان من أصحاب الشعبي، وخيثمة بن عبدالرحمن، ومن ثقات الكوفيين، وعداده في صغار التابعين، روى له الجماعة الستة في دواوينهم، وحدث عنه أولاده: سُفْيان الإمام، وعمر، ومبارك، وحدث عنه أيضًا شعبة بن الحجاج، وزائدة، وأبو الأحوص، وأبو عوانة، وعمر بن عبيدٍ الطنافسي، وآخرون، ومات سنة ست وعشرين ومائةٍ. شيوخ الثَّوري: أيوب السَّخْتياني، وبهز بن حكيمٍ، وجبلة بن سحيمٍ، وجعفر الصادق، وحماد بن أبي سليمان، وحميد الطويل، وربيعة الرأي، وزبيد اليامي، وزيد بن أسلم، وسعيد الجُريري، وأبو حازمٍ سلمة بن دينارٍ، وسليمان الأعمش، وشعبة بن الحجاج، وصفوان بن سليمٍ، وعاصم بن أبي النَّجود، وعاصم الأحول، وعبدالله بن أبي بكرٍ بن حزمٍ، وعبدالله بن دينارٍ، وأبو الزناد، وعبدالله بن شدادٍ الأعرج، وعبدالله بن طاوسٍ، وعبدالعزيز بن رفيعٍ، وابن جريجٍ، وعلي بن بذيمة، وعمرو بن ميمون، وقيس بن مسلمٍ، وليث بن أبي سليمٍ،وابن إسحاق، ومحمد بن أبي بكرٍ بن حزمٍ، وابن أبي ذئبٍ، وابن أبي ليلى، ومحمد بن المنكدر، ومعمر بن راشدٍ، وهشام بن عروة، وأبو إسحاق السبيعي، ويقال: إن عدد شيوخه ستمائة شيخٍ، وقد قرأ سُفْيان الثَّوري القرآن كله على حمزة الزيات أربع مراتٍ. تلاميذ الثَّوري: حدّث عنه من القدماء من مشيخته وغيرهم خلق، منهم: الأعمش، وابن جريجٍ، وجعفر الصادق، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وابن أبي ذئبٍ، ومسعر، وشعبة، ومعمر - وكلهم ماتوا قبله- وأبو إسحاق الفزاري، وأحمد بن يونس، وابن عُلَية، وجرير بن عبدالحميد، وحفص بن غياثٍ، وأبو أسامة، ورَوْح بن عبادة، وسُفْيان بن عيينة، وأبو داود الطيالسي، وعبدالله بن المبارك، وعبدالرحمن بن مهدي، وعبدالرزاق، وأبو نعيمٍ، وفضيل بن عياضٍ، ومالك بن أنس، ومحمد بن يوسف الفريابي، ووكيع بن الجراح، ويحيى بن آدم، ويحيى القطان، ويوسف بن أسباطٍ، وأمم سواهم. عدد ما رواه من الأحاديث في صحيح محمد بن إسماعيل البخاري: ثلاثمائة وخمسة وتسعون حديثًا، وفـي صحـيح مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري: أربعمائة وثلاثة عشر حديثًا، وفـي سـنن أبـي داود سليمان بن الأشعث: مئتان وستة وأربعون حديثًا، وفـي سنـن أحمد بن شعيب النسائـي: ثلاثمائة وخمسة عشر حديثًا، وفـي سنـن محمد بن عيسى الترمـذي: ثلاثمائة وثمانية وأربعون حديثًا، وفـي سنـن ابن ماجـه القزويني: ثلاثمائة وستون حديثًا، وفـي مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني: ألف وستمائة وسبعة وعشرون حديثًا.قال أبو قدامة عبيد الله بن سعيد: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: أدركت من الناس الأئمة منهم أربعة: مالك بن أنس، وحماد بن زيد، وسفيان بن سعيد، وذكر الرابع ونسيتُه، إن لم يكن ابن المبارك فلا أدري. وقال عبد الرزاق: سمعت سفيان بن عيينة يقول: أئمة الناس ثلاثة بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، وسفيان الثوري في زمانه. وقال بشر بن الحارث: كان سفيان الثوري عندي إمام الناس. وقال مبارك بن سعيد،: رأيت عاصم بن أبي النجود يجيء إلى سفيان الثوري يستفتيه ويقول: أتيتَنا يا سفيان صغيرًا وأتيناك كبيرًا. وقال عبد الله ابن المبارك: ما أعلم على الأرض أعلم من سفيان الثوري رحمه الله. وقال أيضًا: إذا لقيتَ سفيان فلا تسأله عن شيء إلا عن رأيه. وكان الأوزاعي يقول: لو قيل لي: اختر رجلًا يقوم بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لاخترتُ لهما الثوري. وقال أبو بكر بن عياش: إني لأرى الرجل يحدث عن سفيان فيَنْبل في عيني.وقال شعيب بن حربٍ: ذكروا سُفْيان الثَّوري عند عاصم بن محمدٍ، فذكروا مناقبه حتى عدُّوا خمس عشرة منقبةً، فقال: فرغتم؟ إني لأعرف فيه فضيلةً أفضل من هذه كلها؛ سلامة صدره لأصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم.قال عبد الرزاق: كنت جالسا مع أبي حنيفة في دبر الكعبة، فجاء رجل فقال: يا أبا حنيفة، ألا أُعجبك من الثوري ؛ رأيته يُلبي على الصفا. قال: اذهب ويحك فالزمْه فإنه لا يلبي على الصفا إلا لعلم. قال عبد الرزاق: فتعجب منه، فقلت: ألم تسمع حديث مسروق عن عبد الله أنه لَبَّى على الصفا؟ قال محمد بن يحيى الأزدي: سمعت عبد الله بن داود الخريبي يقول: ما رأيت محدِّثًا أفضل من سفيان الثوري. وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: ما رأيت أعقل من مالك ولا رأيت أعلم من سفيان. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: كان يحيى بن سعيد لا يعدل بسفيان الثوري أحدًا. وقال الهيثم بن جميل: سمعتُ شريكًا يقول: إن الله تعالى لا يدع الأرض من حُجَّة تكون لله على عباده، يقول: ما منعكم أن تكونوا مثل فلانٍ؟ قال شريك: ونرى أن سفيان الثوري منهم.قال سليمان الخواص: سمعت عثمان بن زائدة يقول: ما رأيت مثل سفيان قط، بسفيان أقتدي، وعليه أبكي. وقال يحيى بن يمان: سمعت سفيان الثوري يقول: الأعمال السيئة داء، والعلماء دواء، فإذا فسد العلماء فمن يشفي الداء. وقال سفيان الثوري: العِلم طبيب الدين، والدرهم داء الدين، فإذا جذب الطبيبُ الداءَ إلى نفسه فمتى يداوي غيره؟! و قال: حُسن الأدب يطفئ غضب الرب عز وجل. وقال: أول العلم الصمت، والثاني الاستماع له وحِفْظه، والثالث العمل به، والرابع نَشْره وتعليمه. وقال: لا نزال نتعلم العلم ما وجدنا مَن يعلمنا. وقال رجل لسفيان الثورى: إني أشكو من مرض البعد عن الله فما العلاج؟فقال له سفيان : يا هذا، عليك بعروق الإخلاص، وورق الصبر، وعصير التواضع ، ضع هذا كلَّه فى إناء التقوى، وصُبّ عليه ماء الخشية، وأوقِد عليه بنار الحزن، وصَفِّه بمصفاة المراقبة ، وتناوله بكف الصدق، وأشربه من كأس الاستغفار، وتمضمض بالورع، وابعد عن الحرص والطمع ، تشفَ من مرضك بإذن الله.وقال يحيى بن يمان: سمعت سفيان الثوري يقول: الحديث أكثر من الذهب والفضة وليس يُدرَك، وفتنة الحديث أشد من فتنة الذهب والفضة. وقال سفيان: لو لم أعلم لَكان أقلَّ لحزني. وقال: إنما العلم عندنا الرُّخَص عن الثقة، فأما التشديد فكل إنسان يُحسنه. قال عبد الرزاق: سمعت الثوري يقول لرجل من العرب: اطلبوا العِلم وَيْحكم، فإني أخاف أن يخرج منكم فيصير في غيركم، اطلبوه وَيْحكم فإنه عِزٌّ وشَرَف في الدنيا والآخرة. وقال سفيان: مَثَل العالم مَثَل الطبيب لا يضع الدواء إلا على موضع الداء. وقال: الزهد زهدان: زهد فريضة وزهد نافلة، فالفرض أن تدع الفخر والكِبر والعلو والرياء والسمعة والتزين للناس، وأما زهد النافلة: فأن تدع ما أعطاك الله من الحلال، فإذا تركت شيئاً من ذلك، صار فريضة عليك ألَّا تتركه إلا لله. قال الخنيسي: سمعت رجلًا قال لسفيان الثوري: لو أنك نشرت ما عندك من العلم رجوت أن ينفع الله به بعض عباده وتؤجر على ذلك، فقال سفيان: واللهِ لو أعلم بالذي يطلب هذا العلم لا يريد به إلا ما عند الله لَكنتُ أنا الذي آتيه في منزله فأحدّثه بما عندي مما أرجو أن ينفعه الله به. قال أبو نعيمٍ: كان سُفْيان الثَّوري إذا ذكر الموت لا يُنتفع به أيامًا، فإذا سُئل عن الشيء قال: لا أدري، لا أدري. وقال القعقاع بن حكيم: كنت عند المهدي وقد أتي بسُفْيان الثَّوري، فلما دخل عليه سلَّم تسليم العامة ولم يسلِّم بالخلافة، والربيع قائم على رأسه متكئًا على سيفه يرقب أمره (أي حاله)، فأقبل عليه المهدي بوجه طلق وقال له: يا سُفْيان، تفِرُّ منَّا هاهنا وهاهنا وتظن أنَّا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك؟! فقد قدرنا عليك الآن، أفما تخشى أن نحكم فيك بهوانا؟! قال سُفْيان: إن تحكم فيَّ يحكم فيك ملِكٌ قادرٌ يفرُقُ بين الحق والباطل، فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين، ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟! ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال له المهدي: اسكت ويلك، وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن نقتلهم فنشقى بسعادتهم؟! اكتبوا عهده على قضاء الكوفة على ألَّا يُعترض عليه في حُكم، فكتب عهده ودفع إليه، فأخذه وخرج، فرمى به في دجلة وهرب، فطُلب في كل بلدٍ فلم يوجد. وقال عبدالرحمن بن مهدي: سمعت سُفْيان الثَّوري يقول: "طُلِبتُ في أيام المهدي، فهربت، فأتيت اليمن، فكنت أنزل في حيٍّ حيٍّ، وآوي إلى مسجدهم، فسُرِق في ذلك الحي، فاتهموني، فأتوا بي معن بن زائدة وكان قد كُتب إليه في طلبي، فقيل له: إن هذا قد سرق منا، فقال: لِمَ سرقت متاعهم؟ فقلت: ما سرقت شيئًا، فقال لهم: تنحوا لأسأله، ثم أقبل عليَّ فقال: ما اسمك؟ قلت: عبدالله بن عبدالرحمن، قال: يا عبدالله بن عبدالرحمن، نشدتك بالله لَمَا نسبت لي نسبك، قلت: أنا سُفْيان بن سعيد بن مسروقٍ، قال: الثَّوري؟ قلت: الثَّوري، قال: أنت بُغية أمير المؤمنين؟ قلت: أجَل، فأطرق ساعةً، ثم قال: ما شئتَ فأقِم، وارحلْ متى شئتَ. قال عبد الرحمن بن مهدي: لَمّا أن مات، سفيان أخرجناه بالليل من أجل السلطان فحملناه بالليل، فما أنكرنا الليل من النهار. وقال عبد الرحمن بن مهدي: لَمّا أن غسلتُ سفيان الثوري وجدتُ في جسده مكتوبا: {فسيكفيكهم الله}. ونظر حماد بن زيدٍ إلى سُفْيان الثَّوري (أي: بعد وفاته) مُسَجّىً بثوبٍ على السرير، فقال: يا سُفْيان، لست أغبِطُك اليوم بكثرة الحديث؛ إنما أغبطك بعملٍ صالحٍ قدَّمْتَ. و قال سهل بن عاصم: سمعت ثابتًا - أو إسماعيل الزاهد - يقول - وذكر الثوري - فقال: رحم الله أبا عبد الله، يا زين الفقهاء، يا سيد العلماء، يا قرير العيون، تبكي العيون لفقدك على واصل الأرحام في زمانهم. ثم قال: أُصيبَ المسلمون بعمر بن الخطاب وأُصِبنا بأبي عبد الله في زماننا.توفي سُفْيان الثَّوري (رحمه الله) بالبصرة في شعبان سنة إحدى وستين ومائةٍ.سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
ابن السمطا من آل بحر من نسل عيسى بن خلف بن بحر الشهير برحمة من نسل الحسين بن علي رضي الله عنه، وأم الحسين هي السيدة البتول فاطمة الزهراء بنت سيدنا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم