هذا هو الجزء الثاني من مذكرات باراك أوباما المعنونة بـ : " أحلام من أبي ـ قصة عِرُق وإرث " ، الصادرة عن دار كلمات عربية . وقد حدثنا أوباما في الجزء الأول عن بعض المواقف والأحداث عن حياة أبيه وأمه وجده ، وما يعانيه السود من التفرقة العنصرية والإحساس بالغربة وسط مجتمع البيض ، وكيف أنه كان سيتبع مالكوم اكس ويعتنق الإسلام بسبب التأثير القوي الذي يحدثه بداخله أكس ، وكيف تراجع عن هذا الاتباع بعد قراءته سطرا واحد فقط من تعاليم أكس تحدث في هذا السطر عن أمنية كانت تراوده في يوم من الأيام ، أمنية أن يتخلص ، عن طريق العنف ، من الدماء البيضاء التي تجري في عروقه . ويؤكد أوباما أنه عرف أن أمنية مالكولم تلك لم تكن عارضة قط ، وأن الرحلة إلى احترام الذات للدماء البيضاء لا تتراجع أبداً إلى مجرد فكرة مجردة .وكيف أصبح مدمنا للمخدرات ، هربا من مشكلة العنصرية التي كانت تواجهه اينما رحل .
وفي هذا الجزء يتكلم أوباما عن مرحلة جديدة في حياته ، وفيها يبدأ رحلته نحو العمل السياسي المنظم ، وحيث يطمح إلى التغيير من خلال تنظيم السود على مستوى القاعدة الشعبية ومما شجعه على ذلك إطراء أصدقائه ـ من البيض والسود ـ على أفكاره المثالية ، وذلك قبل التحاقه بالدراسات العليا بالجامعة .
فيقول : " عام 1983 قررت أن أصبح منُظماً للمجتمع الأهلي .. في واقع الأمر لم أكن ملماً بالكثير من التفاصيل بخصوص هذه الفكرة ، حيث لم يتسن لي معرفة أي شخص يعمل بهذه الوظيفة ويكسب قوته منها ، وعندما كان زملائي في الجامعة يسألونني عن مهام وظيفة منُظم المجتمع الأهلي لم أكن أستطيع الإجابة بصورة مباشرة ، إنما كنت أعبر عن الحاجة إلى إجراء تغيير ؛ تغيير في البيت الأبيض حيثما كان يواصل ريجان وأتباعه أفعالهم القذرة ، وتغيير في الكونجرس الفاسد والراضخ ، وتغيير في الحالة العامة للبلاد حيث الولع الزائد بالأشياء والأنانية والتمركز حول الذات . بالإضافة إلى ذلك كنت أقول إن التغيير لا يحدث من القمة إلى القاع بل ينبع من القاعدة الشعبية المنظمة " .
ولم يكن أوباما في تلك الفترة يمتلك منطقاً محدداً لأهمية القيام بهذا العمل ، فيقول : الآن بفضل إدراكي المتأخر للأمور أستطيع تحديد منطق معين لاتخاذي هذا القرار ، وتوضيح كيف كان قراري ـ لأن أصبح منُظماً ـ جزءاً من القصة الأكبر التي تبدأ بوالدي ووالده من قبله ، وأمي ووالدتها ، وذكرياتي عن إندونيسيا، عن الأشياء التي كنا نحتفظ بها لأنفسنا .
لكن كلما حاولت التأكيد على فكرة الاعتداد بالنفس هذه والخصائص المعينة التي كنا نأمل في ترسيخها في الذهن والوسائل المعينة التي ربما كنا نشعر من خلالها بالرضا عن النفس ، كانت المحادثات تسلك طريقاً من التراجع يبدو وكأنه لا نهاية له . وكانت الأسئلة التي تطرح نفسها هي : هل تكره نفسك بسبب لونك أم لأنك تستطيع القراءة أو الحصول على وظيفة ؟ أو ربما بسبب أنك لم تكن محبوباً في طفولتك لأن لون بشرتك كان شديد السواد ؟ أو شديد البياض ؟ أم لأن والدتك كانت تتعاطى الهيروين ؟ .. ترى لماذا كانت تتعاطى ذلك الشيء على أية حال ؟ هل تشعر بالحزن بسبب شعرك المجعد أم لأن الشقة التي تقطن فيها ليست دافئة أو مشتملة على أثاث جيد ؟ أم لأنك كنت تتخيل في أعماقك أن الكون ليس له رب ؟
ومن الواضح أن كل هذه التساؤلات نفسها هي التي كان أوباما يسألها لنفسه في توتره تجاه مشكلة العنصرية وإحساسه بالغربة داخل المجتمع الأمريكي ، لذلك فإنه يقول : " ربما لم يستطع أحد تجنب هذه الأسئلة وهو يشق طريقه نحو الخلاص الشخصي ، وما شككت فيه هو أن كل هذا الحديث عن الاعتداد بالنفس يمكن أن يكون لب سياسة فعالة للسود .. " .
ويستمر أوباما في تأكيد هذه المشاعر المتعلقة بالتفرقة العنصرية قائلاً : " في تحدثي مع القوميين المجاهرين بهويتهم القومية اكتشفت كيف لعب الاتهام العام لكل ما هو أبيض دوراً رئيسياً في رسالتهم عن الشعور بالأمل ، وفي الطريقة التي أصبح يعتمد فيها كل طرف على الآخر على الأقل نفسياً ؛ لأنه عندما يتحدث القومي عن إحياء القيم باعتباره الحل الوحيد للتغلب على فقر السود ، فإنه كان ينتقد الجمهور الأسود من المستمعين إليه نقداً ضمنياً ـ إن لم يكن نقداً صريحاً ـ بحجة أننا لسنا مضطرين لأن نحيا بالطريقة التي حيينا بها ، وما دام هناك أشخاص استطاعوا استيعاب هذه الرسالة البسيطة واستخدامها لخلق حياة جديدة لأنفسهم ـ هؤلاء الأشخاص الذين كانت لديهم الميول ذات المشاعر المتبلدة التي طالب بها " بوكر تاليافيرو واشنطن " أتباعه ذات مرة ـ فإن هذا الحديث بدا في آذان العديد من السود وكأنه يذكرهم بالتفسيرات التي دوماً ما كان يقدمها البيض
ستساعدني في إحداث تغيير حقيقي ، أشياء عن معدل الفائدة واندماج الشركات ، والعملية التشريعية ، والطريقة التي تعمل بها الشركات والبنوك معاً ، وكيفية نجاح أو فشل الشركات العاملة في مجال الاستثمار العقاري ، بالإضافة إلى ذلك سأتعلم الكثير عن القوة كوسيلة بكل تفاصيلها وتعقيداتها ، إنه العلم الذي عرضني للخطر قبل مجيئي إلى شيكاغو ولكنني الآن سأعيده إلى المكان الذي هو في مسيس الحاجة إليه ، سأعيده إلى روزلاند وسأعيده إلى ألتجيلد ، وسأفعل مثلما فعل بروميثيوس مع النار .. تلك هي القصة التي كنت أرويها لنفسي ، القصة نفسها التي تخيلت أبي وهو يرويها لنفسه منذ ثماني وعشرين عاماً عندما ركب الطائرة إلى أمريكا ؛ أرض الأحلام . ربما يكون قد اعتقد هو الآخر أنه يؤدي عملاً عظيماً ، وأنه لم يسافر فراراً من أمور لا تتطابق مع المنطق ، وفي الواقع عاد بعدها إلى كينيا ، أليس كذلك ؟ بلى ، لكنه عاد رجلاً ذا روح ممزقة ، وسريعاً ما دفنت خططه وأحلامه ".
لكن أوباما كانت له روح مختلفة عن أبيه ، فيقول : " لم تكن العلاقة بين البيض والسود ومعنى الهروب مماثلين من منظوري لما كانا عليه من منظور أبي وفي ظل أنين شيكاغو من ضغط الفصل العنصري ، وفي ظل التوتر بين الأعراق تسبب نجاح حركة الحقوق المدنية على الأقل في خلق بعض التداخل بين المجتمعات ، ومنح أمثالي مساحة أكبر للمناورة . فكرت في أنني يمكنني العمل في المجتمع الأسود كمنظم أو محامٍ وفي الوقت نفسه أسكن في وسط المدينة في بناية شاهقة ، أو العكس تماماً ، أو أن أعمل في مؤسسة قانونية كبيرة وأسكن في الجانب الجنوبي وأشتري منزلاً كبيراً وسيارة جميلة ، وأقوم بالتبرع إلى الجمعية الوطنية للارتقاء بالملونين ، وإلى حملة هارولد الانتخابية ، وألقي الخطب في المدارس الثانوية المحلية ، ويطلقون علي لقب المثل الأعلى لنجاح الرجل الأسود " كانت هذه الصور لحركة الحقوق المدنية وفي الأغلب لمشاهد من الأفلام الأبيض والأسود غير الواضحة التي كانت تعرض خلال شهر التاريخ الأفريقي القومي ، وهي الصور نفسها التي كانت أمي ترسمها لي عندما كنت طفلاً .
كانت هذه الصور تخبرني أنني لم أكن بمفردي في هذا الكفاح ، وأن المجتمعات لم تكن أبداً حقيقة مسلماً بها في هذا البلد ، على الأقل للسود ، فالمجتمعات لا بد من أن تنشأ ويحارب من أجلها ، وأن يُعتنى بها كما يعتنى المرء ببستانه ، فهي تتوسع وتنكمش طبقاً لأحلام رجالها ، وفي حركة الحقوق المدنية كانت هذه الأحلام كبيرة ، أما في حالة الاعتصام والمظاهرات واعتراضات السجناء كنت أرى أن المجتمع الأفرو ـ أمريكي أصبح أكثر من مجرد مكان ولدت فيه أو منزلاً ترعرعت بين جدرانه . وعن طريق العمل التنظيمي والتضحية المشتركة أمكن الحصول على العضوية ، ولهذا السبب ( لأن هذا المجتمع الذي تخيلته كان لا يزال في مرحلة التشكيل وكان مؤسساً على الوعد بأن المجتمع الأمريكي الأكبر ـ الأسود والأبيض والأسمر ـ يمكنه إلى حد ما إعادة تعريف نفسه ) آمنت بأن هذا المجتمع مع الوقت ربما يعترف بأن حياتي ذات طبيعة متفردة .. كانت تلك هي فكرتي عن التنظيم ، وكانت وعداً بالإصلاح " .
ويذكر أوباما رحلته إلى شيكاغو حيث كانت مليئة بالأحداث المهمة في حياته والتي أثرت تأثيراً كبيراً في توجهاته ، يقول : " أعتقد أنه بعد ملاحظتي هذا الاختلاف بين ما نتحدث عنه سراً وما نتحدث عنه علناً تعلمت ألا أفرط في تصديق أولئك الذين يقولون إن اعتداد السود بأنفسهم هو علاج لجميع مشاكلهم مثل تعاطي المواد المخدرة ، أو الحمل في مرحلة المراهقة ، أو جريمة يكون طرفاها من السود ، عند وصولي إلى شيكاغو ، كانت عبارة الاعتداد بالنفس تتوارد على شفاه الجميع ، النشطاء السياسيون والاجتماعيون ، وضيوف البرامج الحوارية التليفزيونية والإذاعية ، والمعلمون ، وعلماء الاجتماع ، كانت هذه العبارة جامعة وبارعة في وصف آلامنا وأصبحت أيضاً طريقة مقبولة للتحدث عن الأشياء التي كنا نحتفظ بها لأنفسنا .
لكن كلما حاولت التأكيد على فكرة الشعور الموروث بالدونية ، بإنه من الضعف الثقافي العام أجده غباء ، كانت رسالة تجاهلت السببية والأخطاء ، رسالة خارج حدود التاريخ وتخلو من السيناريو أو الحبكة التي ربما تصر على تسلسل الأحداث . وفيما يتعلق بأناس جُرّدوا من تاريخهم ولا يملكون ما يؤهلهم لاستعادة هذا التاريخ بأي شكل من أشكاله ـ بخلاف الشكل الذي يرفرف على شاشات التليفزيون ـ فإن الدليل على ما كنا نراه يومياً كان يؤكد أسوأ شكوكنا في أنفسنا".
كان القوميون يقولون إن حالة السود المذرية لم تحدث بسبب عيب متأصل فيهم كسود بل تسبب فيها البيض . وفي الواقع إن البيض ليس لديهم مشاعر ، بل مخادعون أيضاً لدرجة تجعلنا لم نعد نتوقع أي شيء منهم ، فشعورك بكراهيتك لذاتك ـ الذي يدفعك إلى الإفراط في شرب الخمر أو إلى السرقة ـ غُرس بداخلك على أيديهم ، لذا اطردهم بعيداً عن تفكيرك ، وحرر قواك الحقيقية أو كما تقول الأغنية : انهض انهض أيها العرق الجبار .
وفي هذا المقام يقول أوباما : ساعدت عملية الإحلال هذه ـ أي الاشتراك في انتقاد الذات في الوقت الذي نبعد فيه أنفسنا عن موضوع الانتقاد ـ في تفسير النجاح الباهر لمنظمة أمة الإسلام في تغيير حياة مدمني المخدرات والمجرمين . على أنه إذا كانت قد تناسبت بصفة خاصة مع هؤلاء الذين يعيشون في قاع المجتمع الأمريكي ، فإنها خاطبت أيضاً جميع الشكوك المستمرة لذلك المحامي الذي سعى بكل ما أوتي من قوة لتحقيق النجاح الباهر في حين كان يتعرض لصمت الناس جميعاً عند دخوله أماكن الاجتماعات ، وطلاب الجامعة من الشباب الذين كانوا يقدرون بحذر المسافة بين أنفسهم وبين الحياة في شوارع شيكاغو المتدنية ، وهم يشعرون بالخطر الذي توحي به هذه المسافة ، وجميع الأفراد السود الذين اتضح أنهم شاركوني صوتاً كان يهمس بداخلهم قائلاً لهم : إنكم لا تنتمون إلى هذا المكان "