بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد:فمن من الأدباء من لم يمر على قصة أو أبياتا لجارية الرشيد المسماه بعنان ؟! لن نتكلم عنها مباشرة ولكن دعونا في هذه الحلقة نأخذ تصورا عن الرقيق وأحوالهم في العهد العباسي ثم ندلف إلى عنان لننهل من أدبها وبديهتها ما يعجب به المتذوق للأدب.
نقول:
ان تجارة الرقيق، اناث وذكور، تقليد بشري قديم قدم تواجد المجتمعات البشرية. منذ إن عرف الانسان الجوع والحرب عرف العبودية، إذ كان اول العبيد هم اسرى الحروب كذلك ابناء الفقراء الذين يبيعهم اهلهم الى الاغنياء لكي ينقذوهم من الجوع والفقر. ظلت العبودية سائدة في كل انحاء الارض اينما انوجدت الجماعت البشرية، ما دام هنالك فقر وهنالك حروب. صحيح أن الإسلام لم يحرم الرق ، بل دعا إلى إلغاء ه تدريجيا، وذلك لاستحالة فرض الغائه في تلك الازمان. من هنا كانت النظم والقوانين التي جاء بها الإسلام لتحسين أحوال الرقيق والرفع من مكانتهم الاجتماعية. يمكن القول ان المجتمعات الاسلامية هي اكثر المجتمعات التي توفرت فيها الفرص للعبيد، نساء ورجال، ان ينعتقوا من عبوديتهم ويصعدو في السلم الاجتماعي الى حد ان يكونوا اعضاء في الطبقات الحاكمة وشخصيات مرموقة في مختلف المجالات.
خلال العصر العباسي تحول المجتمع العراقي الى اكبر المجتمعات في التاريخ الذي يمتلك هذا العدد الهائل من الجواري والرقيق. لقد تحولت( بغداد) الى اكبر مدينة في ذلك العصر باستيراد العبيد، يجلبون لها من كل انحاء الارض، من غابات افريقيا واصقاع تركستان حتى روسيا والبلدان الاسكندنافية. بل كان هنالك جواري وعبيد من دماء عربية يجلبون من الحجاز واليمن، فالحروب والفقر لم تميز بين الاجناس. ان ان كثرة الجواري في اسواق (بغداد) في هذا العصر، يعود اولا الى الغنى المادي الفاحش الذي تراكم لدى الطبقة العباسية الحاكمة بسبب تراكم مغانم الحروب والعائدات المالية والعينية المجلوبة الى (بغداد) من جميع انحاء الامبراطورية. بالاضافة الى كثرة الحروب التي كان على الدولة العباسية خوضها في اصقاع مختلفة مما أدى إلى اتساع الدولة وانتشار تجارة الرقيق انتشارا واسعا. علما ان هؤلاء الرقيق، من اناث وذكور، لم يكن بمعظمهم من الاسرى، بل ان غالبيتهم العضمى اطفال قد باعهم اهلهم الى النخاسين من اجل انقاذهم من الفقر والجوع، وعلى امل ان يحالفهم الحظ في حياة اخرى. وفعلا ان الكثير من هؤلاء الرقيق قد استثمروا اوضاعهم الجديدة فصعدو بالسلم الاجتماعي واصبحوا اعضاء في الطبقة الحاكمة نفسها، بل ان بعضهم اصبحوا سلاطين، ومن اشهرهم(كافور الاخشيدي) في مصر، كذلك امهات وزوجات الخلفاء اللواتي كن جواري، ومن اشهرهن (الخيزران) ام(هارون الرشيد).
من المعلوم ان هؤلاء الرقيق ليسوا كلهم من المجلوبين الجدد من خارج العراق، بل الكثير منهم منهم قد ولدوا في العراق نتيجة تزاوجهم بين بعضهم البعض، او تزوج امهاتهم برجال احرار. أن البلدان الأصلية للجواري لم تعد المصدر الوحيد لتزويد العراق، فقد صرن يتكاثرن بالزواج من الرقيق وصارت الجارية تنسب بالمولد.
ان الحديث عن الجواري يقتضي اولا الحديث عن النخاسين أو (تجار الجواري). كان هؤلاء يشكلون فئة اجتماعية متكاملة، من حيث عدد العاملين معهم من عمال وكتاب ووسطاء وشبكات دعارة ودعاية وتثقيف، ولهم فروع وعيون واتصالات مع وسطاء وتجار فرعيين مقيمين في جميع انحاء الارض. كان للنخاسين دورهم في (بغداد) مخصصة لتلك التجارة تقع على شواطيء نهر دجلة قرب أسواق الرقيق. كما أن هنالك دور خاصة للرقيق مجاورة لدورهم. هنالك حكايات كثيرة عما يجري في تلك الدور من مجون تحت إشراف النخاسين وبتوصية منهم استجلابا لطبقة الأغنياء وطبقة الشعراء ممن يستهويهم ذلك النوع من الحياة اللاهية في أوساط الجواري. وقد تطور العمل والتخصص لدى هؤلاء النخاسين بحيث انهم جلبوا المعلمين والمثقفين في مختلف الفروع لكي يقوموا بالاشراف على تربية وتثقيف جواريهم وتعليمهن مختلف معارف ذلك الزمن لكي يتمكن من مجالسة أفراد الطبقات العليا والتأثير فيهم.
لقد نجحت جهود النخاسين الكبيرة في هذا المضمار للدرجة التي أصبحت فيها الكثير من هؤلاء الجواري يجادلن ويحاورن في كثير من أبواب العلوم والفنون بالشكل الذي تفوقن فيه على كثير من الحرائر اللواتي لم تتح لهن كل هذه الفرص في التثقيف والتعليم. ان ارتفاع المستوى الثقافي لدى الجارية يعني ارتفاع سعرها، ثم ان هذا زاد في حظوظهن مع الرجال بالشكل الذي أدى إلى ازدياد تأثيرهن في المجتمع العباسي بأكمله. ان الجواري اثرن بشكل لا يمكن وصفه في الطبقات العليا من المجتمع العراقي وبالذات في الطبقة العباسية الحاكمة. لم يقتصر الامر على نشر الخلاعة والمجون واجواء (الف ليلة وليلة)، بل كان لهن تأثير ايجابي واضح يتمثل بمساهمتهن في نشر الثقافة والفنون الجميلة والكثير من التقاليد والعادات المجلوبة من مجتمعاتهم الاصلية، سواء بالموسيقى والغناء والازياء والطبخ والادب وكل المجالات المعرفية. بالإضافة إلى ما تنتجه هؤلاء الجواري أنفسهن من شعر نتيجة لتثقيفهن ثقافة عالية من قبل نخاسيهن. بل إن أثر هؤلاء تعدى كذلك إلى الناحية السياسية فقد اتسع نفوذهن وقوي سلطانهن وخاصة اللواتي حظين بأن يكون لهن أزواج أو أبناء من الخلفاء. يبدو ان الجواري المجلوبات من الحجاز كان لهن تأثير واضح في فن الغناء في (بغداد). وهنالك مجموعة من الخلفاء وأبناء الخلفاء ممن كانت لهم صنعة في الغناء. ومن اشهر الجواري اللواتي برزن على هذا الصعيد: (بذل) و(تيم) و(دنانير) و(عريب) و(فريدة) و(عاتكة بنت شهدة) و(قلم الصالحية).
كما كان لهؤلاء الجواري تأثير أدبي على الادباء انفسهم يتمثل فيما تثيره الجواري من عواطف في صدور الشعراء فتخرج على ألسنتهم شعرا جميلا. ولهذا السبب انتشر شعر الغزل بصورة تفوق أي عصر، وانقسم الى غزل عفيف وغزل ماجن. ومن أشهر القصص المعروفة على هذا الصعيد قصة( بشار بن برد وعبدة) و(قصة العباس بن الأحنف وفوز) وقصة (أبي العتاهية وعتبة) وقصة (أبي نواس وجنان)، بالإضافة إلى قصص اقل شهرة، مثل قصة (إبراهيم الموصلي وذات الخال) وقصة (محمد بن أمية وخداع).
هناك مجموعة من الجواري قلن الشعر وتفوقن في النظم فيه، يحضر مجالسهن الأدباء ويتبارين مع فحول الشعراء. لكن للاسف تاريخ الادب لم يحفظ لنا الكثير من نتاجاتهن، ربما بسبب تدخل بعض المتزمتين من ذوي العقلية الفحولية في الغاء ومسح تراثهن!! هنالك جاريتين شغلتا المجتمع العباسي وسيطرتا على تفكير كثير من الخلفاء والشعراء بما تملكانه من موهبة فنية في نظم الشعر ورواية للأخبار والأشعار وهما (عنان) جارية (الناطفي) و(عريب) جارية (المأمون).
فمن هي عنان ؟ هذا ما سوف نتحدث عنه لاحقا إن شاء