الحمد لله الذي شرح بفضله صدورالعارفين من العباد، وضيّق بعدله قلوب الجهلة من ذوي الفسق والعناد، فتصرفه تعالى في خلقه بحكمته كيف شاء وأراد، ويسَّر الكل لما خلق فلا ينقص عنه ولا يزاد، فهوالمحيط بخفيات الغيوب، المطلع على سرائر القلوب، أحمده سبحانه بارئ النسم، وخالق الأمم، ومُجري القلم في القِدَم بما هو أعلم، أعطى ومنع، وخفض ورفع ،وضر ونفع، فلا مشارك له في إنعامه وألوهيته، ولا معاند له في أحكامه وربوبيته، ولا منازع له في إبراماته وأقضيته، وأشكره منَّ علينا بالإيمان وصيّرنا من أهله ، وهدانا للإسلام وعلمنا شرائعه وفضله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تعبر عن قلب قد عمر بالإخلاص، وذخيرة للنجاة من النار والخلاص. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ونبيه وخليله، الذي أنقذ اللهُ به عباده المؤمنين من الهلاك، وخلّصهم به من أشراك الإشراك، حتى قاموا لله سبحانه بما شرع له من طاعته، وأنزل عليه من أحكام عبادته. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، خلفاء الدين وحلفاء اليقين مصابيح الأمم ، ومفاتيح الكرم، وكنوز العلم ،ورموز الحكم، صلاة وسلاما دائمين متلازمين بدوام النعم والكرم ، وبعد:
  فيقول العبد الفقير ، كثير التقصير ، الراجي من ربه الخبير ، غفران الذنوب الكبير منها والصغير ، ابن السمطا الشريف من آل بحر، عامله الله تعالى بخفي لطفه العظيم، وغفر الله له ولوالديه وذريته، ورزقهم الله سعادة الدارين، ومنَّ الله عليهم بشفاعة سيدالكونين:  وإني أبرأ إلى الله من حولي وقوتي متمسكًا بحول الله وقوته، وأستغفره من زلل العقل وخطأ القلم وزلة اللسان، وإن شاء الله نذكر نبذة على شريطة الاختصار فيها حذرا من السآمة والملال من سيرة أئمة المذاهب الأربعة علي حلقات أربع  ، ليعلم المقتدون بهم أن شرفهم وعلو درجتهم ومكانتهم عند الله تعالى لم تكن بمجرد العلم الظاهر والتوسع في تفاريع المسائل الفقهية فحسب، بل لكونهم من علماء الآخرة جامعين لعلاماتها، متأسين فيها بالصحابة رضي الله عنهم والتابعين والسلف الصالحين. ونبيِّن في هذا التنويه العاجل وتلك القطفه السريعة المختصرة أنّ كلَّ واحد منهم كان عابدًا وزاهدًا، وعالمًا بعلوم الآخرة، وفقيهًا في مصالح الخلق، ومعاملات الدنيا ومريدًا بفقهه وجه الله تعالى.
وقد عشنا في النبذه الأولي مع الإمام أبي حنيفة ، وإن شاء الله الآن مع الإمام الثاني وهو إمام دار الهجرة: « مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر -واسمه نافع- بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث ذي أصبح بن مالك بن زيد بن قيس بن صيفي بن حمير الأصغر بن سبأ الأصغر بن كعب كهف الظلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن هميسع بن حمير بن سبأ» وكنيته أبو عبد الله .
أمّا أمه فهي العالية بنت شريك بن عبد الرحمن بن شريك الأزدية، وأزد من أشهر قبائل العرب القحطانية، تنسب إلى الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فهي تلتقي مع زوجها أنس بأنهما من عرب اليمن. انتقل جد أبيه - وهو أبو عامر بن عمرو - من اليمن إلى المدينة المنورة بعد غزوة بدر الكبرى، وصاهر بني تميم وحضر المغازي كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بدرا، فهو صحابي جليل، رضي الله عنه.
أما جده مالك بن أبي عامر فكان من كبار التابعين وعلمائهم. وشارك هذا الجد المبارك كتابة المصاحف في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فكان مالك الجد، ممن كتبوها، ولم يكن يندب لهذه المهمة إلا أشخاص بارزون ، وكان الخليفة عمر بن عبد العزيز يستشيره.
أما أبوه أنس فلم يكن اشتغاله بالحديث كثيرًا، إذ لم ينسب إلى مالك أنه روى عن أبيه إلا خبرًا واحدًا، ومهما كان حال أبيه من العلم ففي أعمامه وجده غناء، ويكفي مقامهم في العلم لتكون الأسرة من الأسر المشهورة بالعلم.كما كان أخو مالك وهو النضر بن أنس ملازمًا للعلماء يتلقى عليهم ويأخذ عنهم.
وقد ولد مالك بالمدينة المنورة، كانت  بها نشأته، روي عنه أنه قال: «وُلدت سنة ثلاث وتسعين» وذلك  في خلافة الوليد بن عبد الملك، وفي العام الذي مات فيه الصحابي أنس خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم وبالمدينة المنورة، وهو من تابعي التابعين وكان لمالك أربعة أولاد هم: يحيى، ومحمد، وحماد، وفاطمة أم أبيها أو أم البنين. حفظ الإمام مالك القرآن الكريم في صدر حياته، واتجه بعد حفظ القرآن الكريم إلى حفظ الحديث، فوجد من بيئته محرضًا، ومن المدينة موعظًا ومشجعًا، ولذلك اقترح على أهله أن يذهب إلى مجالس العلماء ليكتب العلم ويدرسه، فذكر لأمه أنه يريد أن يذهب فيكتب العلم، فألبسته أحسن الثياب وعممته، ثم قالت: «اذهب فاكتب الآن»، وكانت تقول: «اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه» وكان حريصا منذ صباه على استحفاظ ما يكتب، حتى أنه بعد سماع الدرس وكتابته يتبع ظلال الأشجار يستعيد ما تلقى، ولقد رأته أخته كذلك فذكرته لأبيها فقال لها: «يا بُنيَّة، إنه يحفظ أحاديث رسول الله» وقد ذكر الإمام مالك فقال: كان لي أخ في سن ابن شهاب، فألقى أبي يوما علينا مسألة، فأصاب أخي وأخطأت، فقال لي أبي: «ألهتْكَ الحمام عن طلب العلم» (وكان يتلهى بتربية الحمام في مطلع حياته) فأثَّر فيّ، فانقطعت إلى ابن هرمز سبع سنين لم أخلطه بغيره، وكنت أجعل في كمي تمرًا وأناوله صبيانا وأقول لهم: «إن سألكم أحد عن الشيخ فقولوا مشغول». وقال ابن هرمز يومًا لجاريته: «من بالباب؟»، فلم تر إلا مالكًا، فرجعت فقالت: «ما ثَمَّ إلا ذاك الأشقر». فقال: «ادعيه فذلك عالم الناس»، وكان مالك قد اتخذ شيئًا محشوًّا للجلوس على باب ابن هرمز يتقي به برد حجر هناك. وكان يقول: وكنت آتي ابن هرمز بكرة فما أخرج من بيته حتى الليل. ولازم ابنَ هرمز ملازمة لم يخلطه فيها بغيره، ثم اتجه إلى الأخذ من غيره من العلماء مع مجالسة شيخه فوجد في نافع مولى ابن عمر بُغيته، فجالسه مع مجالسة ابن هرمز وأخذ عنه علما كثيرا، قال الإمام مالك: «كنت آتي نافعًا نصف النهار وما تُظلني الشجرة من الشمس أتحين خروجه، فإذا خرج أدعه ساعة كأني لم أره، ثم أتعرض له فأسلم عليه وأدعه، حتى إذا دخل أقول له: «كيف قال ابن عمر في كذا وكذا؟»، فيجيبني، وقال مالك: قدم علينا الزهري فأتيناه ومعنا ربيعة، فحدثنا نيفًا وأربعين حديثًا، ثم أتيناه في الغد، فقال: «انظروا كتابا حتى أحدثكم، أرأيتم ما حدثتكم به أمس؟»، قال له ربيعة: «ههنا من يرد عليك ما حدثت به أمس». قال: «ومن هو؟»، قال: «ابن أبي عامر»، قال: «هات»، فحدثته بأربعين حديثا منها، فقال الزهري: «ما كنت أرى أنه بقي أحد يحفظ هذا غيري». قال تلميذه ابن القاسم: «إنه كان لمالك أربعمئة دينار يتّجر بها، فمنها كان قوام عيشه».
بعد أن اكتملت دراسة مالك للآثار والفتيا اتخذ له مجلسا في المسجد النبوي للدرس والإفتاء، ولقد قال في هذا المقام: «ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل والجهة من المسجد، فإن رأوه لذلك أهلا جلس، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخًا من أهل العلم أني موضع لذلك».
كان مجلس مالك في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه خوخة عمر بين القبر والمنبر، وكذلك فعل مالك في مسكنه، فقد كان يسكن في دار عبد الله بن مسعود ليقتفي بذلك أثر عبد الله بن مسعود. وكان يقول: «من آداب العالم ألا يضحك إلا تبسمًا». وقد قال الواقدي: «كان مجلسه مجلس وقار وعلم، وكان رجلا مهيبا نبيلا، ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط ولا رفع صوت، وإذا سُئل عن شيء فأجاب سائله لم يقل له من أين هذا؟».
وقال عبد الله بن المبارك: كنت عند مالك وهو يحدثنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلدغته عقرب بست عشرة مرة ومالك يتغيّر لونه ويصفرّ ولا يقطع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغ من المجلس وتفرق الناس قلت: «يا أبا عبد الله، لقد رأيت اليوم منك عجبا؟»، فقال: «نعم، إنما صبرت إجلالا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ».
قال عبد الرحمن بن مهدي: سأل رجل مالكا عن مسألة، وذكر أنه أرسل فيها من مسيرة ستة أشهر من المغرب، فقال له: «أخبر الذي أرسلك أن لا علم لي بها». فقال: «ومن يعلمها؟»، قال: «الذي علّمه الله».
وقال معن بن عيسى: سمعتُ مالكًا يقول: «إنما أنا بشرٌ أُخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه».
وكان الإمام مالك ينهى عن الجدال في الدين ويقول: «المراء والجدال في الدين يذهب بنور العلم من قلب العبد». ورأى قوما يتجادلون عنده فقام ونفض رداءه وقال: «إنما أنتم في حرب» وهكذا نرى أن مالكا رضي الله عنه قد بلغ من علم السنة مالم يبلغه غيره ، ومن الفقه درجة صار فيها فقيه الحجاز الأوحد، حتى إن حماد بن زيد كان يقول لرجل جاءه في مسألة اختلف فيها الناس: "يا أخي إن أردت السلامة لدينك فسل عالم المدينة وأصغ إلى قوله فإنه حُجة بين الناس".
وفي حقه قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه: "ما رأيت أسرع منه بجواب ونقدٍ تامّ". وشهد له بالفضل أبو يوسف فكان يقول فيه: "ما رأيت أعلم من ثلاثة: مالك وابن أبي ليلى وأبي حنيفة" إذ كان الأخيران شيخيه فوضع مالكًا في مرتبتهما.
وقال في شأنه تلميذه الإمام الشافعي رضي الله عنه: "مالك حُجة الله على خلقه بعد التابعين، ومالك أستاذي، وعنه أخذت العلم، ومالك معلمي، وما أحد أمَنُّ عليّ من مالك، وجعلته حُجة فيما بيني وبين الله". وقال فيه أيضا: "إذا ذُكر العلماء فمالك النجم"، وكذلك قال فيه: "إذا جاءك الحديث عن مالك فشُدّ يدك عليه". وقال الإمام أحمد بن حنبل فيه: "مالك سيد من سادات أهل العلم، وهو إمام في الحديث والفقه، ومَن مِثل مالك؟! متّبع لآثار من مضى، مع عقل وأدب".
وعن مصعب بن عبد الله الزبيري عن أبيه قال: "كنت جالسا بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مالك، فجاء رجل فقال: أيكم أبو عبد الله مالك؟ فقالوا: هذا؛ فجاء فسلم عليه واعتنقه وقبله بين عينيه وضمه إلى صدره وقال: والله لقد رأيت البارحة رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في هذا الموضع فقال: هاتوا مالكا، فأُتِي بك تُرعد فرائصك، فقال: ليس عليك بأس يا أبا عبد الله، وكنَّاك، وقال: اجلس ، فجلستَ، فقال: افتح حجرك ، ففتحتَ فملأه مسكًا منثورًا وقال: ضُمه إليك وبُثه في أمتي. فبكى مالك طويلا وقال: الرؤيا تَسُر ولا تغر، وإن صدقت رؤياك فهو العلم الذي أودعني الله".
وقال: "كان مالك من أحسن الناس وجها ، وأحلاهم عينا ، وأنقاهم بياضا ، وأتمّهم طولا في جودة بدن" وبذا كانت صفاته الجسمية والعقلية وأخلاقه وأحواله تلقي المهابة في نفس من يعرفه ويلقاه. وكان رضي الله عنه يقدس المدينة المنورة ويُجِلّها، ولا يركب فيها دابة، ويقول في ذلك: "كيف أطأ بحافر دابة أرضًا تضم جدث رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقد طلب إليه الرشيد أن يخرج معه إلى العراق فقال له: "أمّا الخروج معه فلا سبيل إليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون"، وكان الرشيد أعطاه ثلاثة آلاف دينار فقال للرشيد عندئذ: "هذه دنانيركم كما هي، فلا أوثر الدنيا عن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقد وعظ، رضي الله عنه، الخليفة العباسي المهدي، حينما طلب منه أن يوصيه فقال له: "أوصيتك بتقوى الله وحده، والعطف على أهل بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيرانه، فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المدينة مهاجَري، وبها قبري، وبها مبعثي، وأهلها جيراني، وحقيق على أمتي حفظي في جيراني، فمن حفظهم كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة".
وروى ابن سعد في الطبقات عن مالك قال: لما حج المنصور قال لي قد عزمت على أن آمُر بكتبك هذه التي وضعتها فتُنسخ ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة وآمرهم أن يعلموا بما فيها ولا يتعدوه إلى غيره. فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات ، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ودانوا به، فدع الناسَ وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم.
وقال أحمد: كان مالك بالمدينة، وكان سفيان بالكوفة، وكان الليث بمصر، وكان الأوزاعي بالشام. وقال عبد الرحمن بن مهدي: «الأئمة أربعة: سفيان الثوري، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وحماد بن زيد»،.
أخذ مالك بن أنس العلم عن نافع (مولى عبدالله بن عمر)، وسعيد المقبري، وأخذ عن الإمام جعفر الصادق من آل البيت وأخرج له في موطئه تسعة أحاديث منها خمسة متصلة مسندة أصلها حديث واحد طويل والأربعة منقطعة.
وكذلك عامر بن عبدالله بن الزبير، وابن المنكدر، والزهري، وعبدالله بن دينار، وإسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، وأيوب السختياني عالم البصرة، وربيعة الرأي، وزيد بن أسلم، وسلمة بن دينار أبو حازم، وسهيل بن أبي صالح، وصالح بن كيسان، وصفوان بن سليم، وأبي الزناد عبدالله بن ذكوان، وعبدالرحمن بن القاسم، وعبدالرحمن بن أبي صعصعة، وعطاء الخراساني، وعلقمة بن أبي علقمة، ومحمد بن أبي بكر بن حزم، وهشام بن عروة ، ويحي بن سعيد الأنصاري، وقد بلغ عدد شيوخه على ما قيل ثلاثمائة من التابعين وستمائة من أتباع التابعين.
 وحدث عنه خلق من الأئمة كثير، منهم السفيانان، وشعبة، وابن المبارك، والأوزاعي، وابن مهدي وابن جريج والليث ، والشافعي،  والزهري شيخه، ويحيى بن سعيد الأنصاري وهو شيخه، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن يحيى الأندلسي، ويحيى بن يحيى النيسابوري.
قال مالك بن أنس: "ما مِنّا إلا رادّ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لم يكن في الأمة أعلم من مالك في ذلك العصر وهذا لا ينازع فيه أحد من المسلمين ، ولا رُحِل إلى أحد من علماء المدينة ما رُحِل إلى مالك لا قبله ولا بعده ، رُحل إليه من المشرق والمغرب ، ورحل إليه الناس على اختلاف طبقاتهم من العلماء والزهاد والملوك والعامة ، وانتشر موطؤه في الأرض حتى لا يعرف في ذلك العصر كتاب بعد القرآن كان أكثر انتشارًا من الموطأ ، وأخذ الموطأ عنه أهل الحجاز والشام والعراق ومصر، ومن أصغر من أخذ عنه الشافعي ومحمد بن الحسن وأمثالهما، وكان محمد بن الحسن إذا حدث بالعراق عن مالك والحجازيين تمتلئ داره، وإذا حدث عن أهل العراق يقل الناس لعلمهم بأن علم مالك وأهل المدينة أصح وأثبت. ونحن نعلم أن الناس ضربوا أكباد الإبل في طلب العلم فلم يجدوا عالما أعلم من مالك في وقته إن كثيرا من علماء التابعين قالوا إن الإمام مالكا رضي الله عنه هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (يوشك أن يضرب الناس أكباد ‏الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة) رواه الترمذي وقال هذا ‏حديث حسن.
قال الخطيب الشربيني في (مغنى المحتاج): غريبة : حُكي أن امرأة بالمدينة في زمن مالك غسّلت امرأة ، فالتصقت يدها على فرجها ، فتحير الناس في أمرها هل تُقطع يد الغاسلة أو فرج الميتة ؟ فاستُفتي مالك في ذلك فقال : سلوها ما قالت لما وضعت يدها عليها ، فسألوها فقالت : قلت طالما عصى هذا الفرج ربه . فقال مالك : هذا قذفٌ ، اجلدوها ثمانين تتخلص يدها ، فجلدوها ذلك فخلصت يدها . فمن ثم قيل : " لا يفتى ومالك بالمدينة ".
وروى القاضي عياض في " الشفا " عن يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل ، حدثنا ابن حميد قال : ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له مالك : يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في المسجد ؛ فإن الله تعالى أدب قوما فقال : " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " [ الحجرات : 2 ] . ومدح قوما فقال : " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم " [ الحجرات : 3 ] . وذم قوما فقال : " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون " [ الحجرات : 4 ] . وإن حُرمته ميتا كحرمته حيا . فاستكان لها أبو جعفر ، وقال : يا أبا عبد الله ؛ أأستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى إلى يوم القيامة ؟ بل استقبله واستشفع به ، فيشفعه الله فيك؛ قال تعالى : " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما " [ النساء : 64 ] .
توفي الإمام مالك  في عهد الرشيد، في المدينة المنورة ، ولم يرحل منها إلى بلد آخر، توفي سنه  تسع وسبعين ومائة عن أربع وثمانين سنة. وقال ابن عيينة عندما بلغه موت مالك: ما ترك على ظهر الأرض مثله، وقبره رضي الله عنه في أول البقيع على الطريق؛ رحم الله مالكا، رضي عنه، وأكرم مثواه، فقد كان كما قال عنه ابن عيينة: "مالك سراج هذه الأمة".
وقد أحسن القائل:
إنَّ العلوم لجَمّةٌ وأجلُّها ... علم القُران وسنةُ المختارِ
فاحفظ كتاب الله واحوِ علومَه ... فإذا انتهيت فمِل إلى الآثارِ
واعرف صحيح روايةٍ وسقيمها ... وتحرَّ هَدْي السادة الأبرارِ
وعلى الإمام الأصبحيِّ فعوِّلنْ ... فهو العليم بموقع الأخبارِ
ولتحْوِ من علم الكلام جوامعًا ... تهديك يوم تحيُّر النُّظارِ