هكذا تهاوت تغريد
أثناء مروري بين مقاعد التلميذات ذات صباح عليل النسمات، أبصرت فتاة يشع النور من محياها، ويضيء وجهها سناء وجمالاً، لكنني حينما نظرت إلى دفترها انبهرت من جمال خطها ونظافة دفترها واهتمامها بدروسها وواجباتها.
كان ذلك في الأيام الأولى التي أقوم فيها بتدريس ذلك الصف، لكنني صرت أدخل إليه في كل يوم وأنا منشرحة الأسارير، وتمنيت أن تكون كل التلميذات بذات المستوى الدراسي ، أما الجمال والأشكال فهي هبة من الرحمن.
ما يميز (تغريد) لم يكن جمالها، وذكاؤها، وفطنتها وحسب، بل هدوؤها، واستشعارها المسؤولية وهي ما زالت طفلة، ونضجها العقلي المبكر، إذ تخاطب المعلمات والإداريات بفكر وعقل يفوق طريقة تفكير الصغيرات ومخاطبتهن للمعلمات وكان تعاملها مع زميلاتها راقياً ومهذباً، ودليلاً على أخلاقها وإنسانيتها، وذوقها الرفيع، لذلك كانت تجد الحب منهن جميعاً بلا استثناء.
لكنها كانت فقيرة، ومن أسرة محدودة الدخل، ويأمل أهلها أن تتعلم وتسهم في انتشال أسرتها من وهدة الفقر وضيق العيش، معالم الفقر لم تكن خفية، غير أنها لا تتمثل في ملابسها أو مظهرها العام أو حقيبتها المدرسية، كانت متواضعة في أكلها، وشربها، واقتنائها الكماليات والأدوات الأخرى التي تحرص زميلاتها على اقتناء العينات الصارخة منها والموديلات الحديثة!!
كانت تكتفي بالقليل من الطعام، وبأي شيء يسد الجوع، ولا تلقي إلى ذلك اهتماماً كبيراً، بل كانت منشغلة بالتحصيل والواجبات والتفوق وحصد الدرجات، وقد أفلحت في ذلك جيداً، وذات يوم جاءت إلى الصف الدراسي ، وقد تلثمت بما يشبه الخمار، فسألتها ما خطبك؟ قالت: مريضة، وماذا بك؟ قالت عيني، وأزاحت الخمار فإذا بعينها قد انقلب جفنها وظهر منه الغشاء الداخلي الأحمر، وسألتها: لماذا لم تذهبي إلى المستشفى؟ قالت: ذهبت، ولكن قرروا لي جلسات تدليك مرتين أسبوعياً، وأن ما جرى لها نوع من الشلل، سببه النوم أمام مكيف الهواء البارد.
هذه الحادثة أثارت فضول زميلاتها وصرن ينظرن إليها بطريقة لا تخلو من إظهار الشماتة – ربما بطريقة غير مقصودة - لكنها تركت في نفسها أثراً عميقاً أجج لديها لواعج الشعور بالفقر والحاجة، فرغم أنها أكملت علاجها وعادت إلى طبيعتها بنسبة عالية جداً، لكنها لم تعد إلى طبيعتها من حيث المستوى الدراسي ، ولا من حيث تعاملها مع زميلاتها ومعلماتها، فصارت تلميذة معقدة نفسياً، وتدهور مستواها العلمي، حتى الفهم العام صار مشكلة، وتحطمت آمالي وآمال كل المعلمات في أننا سنخرَّج واحدة من النابغات.
فانزوت (تغريد) وتوارت صورتها المشرقة، وحزنت لذلك أيما حزن لما أصابها بسبب الصدمة حينما كانت تنظر إلى وجهها في المرآة، لكنها للأسف – لم تجد مَنْ يقف إلى جانبها من أسرتها ليشرح لها أن الأمر طبيعي جداً ولا داعي للقلق، وأنها ستعود إلى سابق عهدها.
لكنها – للأسف – انجرفت أمام المخاوف، وفقدت كل مقومات التفوق!