في الصفحة الأولي من الأهرام الصادر صباح السبت السادس والعشرين من يناير منذ ثمانية وخمسين عاما ــ سنة1952 ــ برز خبر عن بطل معركة الاسماعيلية التي قامت في اليوم السابق بين قوات الشرطة وبين القوات البريطانية
حيث تم ترقيتة ترقية استثنائية ليصبح الملازم أول مصطفي رفعت حاملا رتبة اليوزباشي أي: النقيب ــ لكن الضابط الشاب لم يعلم بهذه الترقية فقد كان وقتها هو وزميله اليوزباشي عبدالمسيح مرقص ونحو ثلاثمائة من أفراد الشرطة ــ البوليس وقتها ــ من فرق بلوكات النظام.. داخل معتقل وسط ثكنات القوات البريطانية في صحراء مدينة الاسماعيلية. ولم يعرف الرجال انه في ذلك اليوم شهدت كلية البوليس اجتماعا عاصفا للضباط.. وان مئات من رجال الشرطة البسطاء الفقراء ــ تضامنا مع زملائهم في الاسماعيلية ــ قد تركوا مقار أعمالهم في العاصمة واتجهوا إلي حديقة الأزبكية التي كانت تفرش مساحة كبيرة وسط القاهرة.. وجلسوا معتصمين رافضين النصائح والعودة للعمل إلا إذا تم الإفراج عن زملائهم المعتقلين وتعويضهم والتحقيق فيما جري.. ولم يعرفوا أيضا أن الجميع قد هب وثار في تظاهرات عمت شوارع القاهرة ــ ومدن أخري ــ بينما جلالة الملك يقيم في قصر عابدين مأدبة غداء فاخرة لقيادات الدولة ومؤسساتها ابتهاجا بمولد ولي عهده.. ولما اشتدت المظاهرات تحركت فئة معينة ــ لاتزال أسرار تحركها غامضة ــ لتحرق وتدمر وتنهب.. ومع اندلاع النيران في المحال والمنشآت.. اشتعلت الغيرة الوطنية في صدور الأحرار فكان قرار البكباشي ــ المقدم ــ جمال عبدالناصر بالتعجيل بقيام الثورة في ذلك العام بعد أن كان محددا لها ان تكون سنة1955 ــ بعد استكمال الإعداد والتهيئة لها.
وفي اليوم التالي لنجاح الثورة مباشرة أرسل جمال عبدالناصر أحد الضباط الأحرار ـ وهو الصاغ ابراهيم البغدادي ـ إلي النقيب مصطفي رفعت الذي كان قد تم الافراج عنه وزملائه لكن وزير الداخلية ــ مرتضي المراغي ــ وجه له ولزميله اللوم والتوبيخ ثم أعطاهما إجازة مفتوحة, وعندما جاءه ابراهيم البغدادي ــ وكانت تربط بينهما صداقة قديمة ــ كان في الاسكندرية مع والديه.. ولما أبلغه أن قائد الثورة يريده قام معه علي الفور للقائه في مقر القيادة بكوبري القبة وليستمع إليه عبدالناصر وهو يشرح تفصيلا لما حدث في الاسماعيلية وبعدها يقرر عودته وزميله الي الخدمة فورا ويلحقه بمكتب وزير الداخلية, وليسأله عن موقف البوليس من الثورة فيعبر له مصطفي عن التأييد الكامل.. وينتهي اللقاء.. ليسرع الضابط الشاب الي كلية البوليس ــ فهو أصلا كان يعمل بها.. وهناك يلتقي ببعض زملائه ــ الذين كانوا متواجدين نظرا لحالة الطواريء في البلد ــ ومنهم ــ حسبما يتذكر ــ العقيد أنور العبد والعقيد يوسف غراب والمقدم أحمد الوتيدي والرائد صلاح دسوقي.. ويروي لهم مقابلته مع جمال عبدالناصر ويتفقون علي إصدار بيان يعلن تأييد البوليس للثورة ويوقعونه مع زملاء آخرين لهم.. ويعلم مدير الكلية اللواء مصطفي المتولي بهذا فيسرع باستدعائهم ويوقع معهم البيان الذي سرعان ما أخذ طريقه إلي مجلس القيادة وإلي الإذاعة لتعلنه.. ولتنهال برقيات التأييد.. بينما يستعد الضابط الشاب لمباشرة عمله الجديد.. وليتذكر كل ما حدث له, وهو ما أصبح ملحمة نروي عنها الآن ونحتفل بها.. ولكنها بالنسبة له.. قصة حياة لاتزال حتي اليوم ــ أطال الله في عمره ــ تتوهج بداخله.. وأمام عينيه.
إن البداية كانت في يوم من الأيام العديدة الفارقة في حياة هذا الشعب المصري الذي يمتد تاريخه إلي عشرة آلاف وخمسمائة سنة من التاريخ المكتوب المنقوش ــ حسب آخر الاكتشافات ــ وهو تحديدا يوم8 أكتوبر1951 عندما أعلن رئيس الحكومة مصطفي النحاس باشا انه بإسم الأمة وقع معاهدة1936.. وأنه باسم الأمة يعلن إلغاءها اليوم. وتكهربت كل الأجواء بعد هذه الخطوة التاريخية وتطورت تداعياتها بسرعة شديدة.. وبدأت استقالات العاملين المصريين في المعسكرات البريطانية.. وبدأ توقف الموردين الذين يمدونها بالأغذية والمستلزمات.. وازاء الرفض البريطاني لهذا القرار المصري المنفرد.. بدأت إعادة انتشار القوات البريطانية علي طول قناة السويس والطواريء في مقر قيادتها الرئيسية بمدينة الاسماعيلية التي كانت في ذلك الوقت مدينة متواضعة تنقسم إلي منطقتين رئيسيتين: الحي الافرنجي الذي يقيم به الموظفون الأجانب في شركة قناة السويس وبعض الضباط الانجليز الذين جاءوا معهم بعائلاتهم وقلة قليلة من المصريين.. وكانت مبانيه راقية وكذلك محلاته التجارية ومطاعمه وملاهيه ويمتد الي شاطيء القناة بأندية الشركة وروادها الخواجات.. وفي الناحية الأخري الحي العربي بمبانيه المتواضعة جدا..
وازاء هذا الموقف البريطاني.. انتفض المصريون فتشكلت جماعات فدائية لمهاجمة المعسكرات ولتشعر القوات البريطانية انها صارت غير مرغوب فيها.. وان الشعب يؤيد قرار إلغاء المعاهدة.. وانخرط في جماعات المقاومة فدائيون من مختلف شرائح الشعب المصري وكان مقر إنطلاقهم من الحي العربي.. ومعهم تعاون ضباط شباب من الجيش.. يدربونهم ويمدونهم بالسلاح ويرسمون معهم خطط مهاجمة المعسكرات بل ويشاركونهم تنفيذ العمليات.. ولم يكن رجال البوليس ـ ضباطا وجنودا ـ أقل وطنية وكان الموجودن منهم في الاسماعيلية يشاركون في الأعمال الفدائية.. كذلك فان الموجودين في القاهرة شعروا بضرورة ألا يفوتهم هذا الشرف فطلب بعضهم النقل للعمل في الاسماعيلية.
ويروي مصطفي رفعت أنه كان وقتها برتبة الملازم أول يعمل في كلية البوليس وطلب ان يذهب الي الاسماعيلية وكان قد تقدم بنفس الطلب اليوزباشي صلاح ذو الفقار.. وهكذا سافر الاثنان للانضمام إلي قوة الاسماعيلية وكان بها اليوزباشي فؤاد الدالي واليوزباشي عبدالمسيح مرقص.. وهناك ــ يقول ــ جري التنسيق كاملا بيننا وبين المواطنين البسطاء في حي العرب الذين كان حماسهم رائعا وشجاعتهم فائقة, وكانوا يغيرون علي المعسكرات بلا خوف, يتسللون إليها وينقلون صناديق كاملة من داخلها فإذا كانت بها أغذية نوزعها علي المواطنين وإذا كانت بها أسلحة نأخذها لنستعملها أما إذا كانت من نوعية معينة فاننا نعطيها للجيش, ويحكي مصطفي رفعت عشرات الحكايات بعضها وصل إلي حافة الخطر.. وبعضها يمزج بين الخطورة والطرافة.. ومنها ان اشترك مع صلاح ذو الفقار في مغامرة اصطياد سيارة جيب يستقلها ضباط إنجليز وبعد أن نالا منها واشتعلت النيران فيها وفي ركابها.. أسرعا بالفرار.. جريا وقفزا من سطح منزل إلي آخر في حي العرب ــ ولأنها منازل بسيطة ـ فقد سقط بهما سقف أحدها ليجدا نفسيهما فوق رءوس أسرة كانت تجلس لتناول الطعام!
وتمضي الأيام.. وتستضيء ضفاف القناة بالأعمال الفدائية التي يشارك فيها الجميع من المصرية البسيطة أم صابر التي رفضت ان يفتشها الجنود الانجليز وهي تتجه إلي بيتها في كفر عبده بالسويس فقتلوها ليهب المواطنون ضد المستعمرين.. إلي الطفل نبيل منصور الذي اقترب من المعسكرات شمال الاسماعيلية ليلقي بداخلها كرة من النار.. إلي العديد من الأبطال.. وتصل الأحداث الي ذروتها وجاء اليوم الموعود.
كانت الساعة السادسة صباح الخامس والعشرين من يناير1952.. عندما فوجيء أبناء الاسماعيلية بالقوات البريطانية تنتشر لتحاصر مداخل ومخارج المدينة.. وتحتل مواقع في ميادينها وشوارعها.. وتحاصر مبني المحافظة ــ أي مديرية الأمن ــ التي كان بها نحو سبعمائة من جنود بلوكات النظام يوجدون في المقر المكون من طابقين وفي خيام بالحديقة الخلفية.. وكان نصفهم تقريبا مسلحا ببنادق متخلفة لي أنفيلد التي تطلق رصاصة واحدة.. ثم يعاد تعميرها.. والنصف الآخر مسلح بعصي.. ومعهم ضابطان كانا في الفندق المجاور وأسرعا الي المقر وهما النقيب عبدالمسيح مرقص والملازم أول مصطفي رفعت أما فؤاد الدالي ومصطفي عشوب فقد كانا في مبني مجاور به نحو مائتي جندي.. وكان صلاح ذو الفقار قد سافر إلي القاهرة في اليوم السابق ــ الخميس ــ لأنه كان عريسا حديث الزواج.
وقامت القوات الانجليزية بمحاصرة المبني حصارا كاملا.. وكان يقودها الجنرال أكسهام قائد منطقة الاسماعيلية ــ المركزية بالنسبة للقوات.
وعبر مكبرات الصوت.. وجهت القوات الي قوة الشرطة إنذارا بالتسليم.. وحدد النداء أن يخرج الرجال بأسلحتهم منكسة وان يلقوا بها أمام الباب ويتقدموا رافعين أيديهم.. مستسلمين.. وإلا فانهم سيتعرضون للدمار.
هكذا سمع الرجال ــ الضابطان والجنود البسطاء ــ الانذار الحاسم. فماذا فعلوا بالداخل؟.. وكيف تصرفوا؟
هنا.. يتوقف التاريخ ليسجل مشهدا من المشاهد العظيمة التي تتجلي فيها الشخصية المصرية بجوهرها الأصيل..
كان مصطفي وعبدالمسيح.. قد نظرا من النافذة.. وشاهدا القوات بحجمها الكثيف وأسلحتها الحديثة وفي مقدمتها دبابات سنتوريوم ــ أحدث وأقوي الدبابات في ذلك الوقت ــ مع المدفعية المحمولة والرشاشات سريعة الطلقات.. غير القنابل المستعدة.. وأدرك الضابطان ان القوة غير متكافئة.. اذ ماذا يمكن ان تفعل البنادق العتيقة وكمية الذخيرة المحدودة.. فهل يقبلان الإنذار بالاستسلام.. أم.. يرفضان.. وماذا سيفعل الجنود البسطاء؟!
وبينما كان كل منهما يقرر في أعماقه عدم الخضوع, لكنه يختلس النظرات القلقة إلي الجنود, إذا بالرجال في أصوات متتابعة, وبالإجماع, يطالبون الضابطين برفض الإنذار والمقاومة إلي آخر طلقة رصاص, بل إلي آخر نفس يتبقي في صدورهم.
واحتضن الضابطان بعضهما بعضا, واحتضنا الجنود, وتوالي الإنذار, ثم جاء طلب بخروج الضابط المسئول لمقابلة الجنرال إكسهام, فاتفق الضابطان علي أن يخرج مصطفي رفعت بسبب أنه يجيد اللغة الإنجليزية, وكان قد عاد قبل هذا اليوم المشهود بأشهر من لندن حيث كان في بعثة دراسية لتنمية مهاراته, وبخطي ثابتة غادر المبني ليواجه الجنرال الذي رجل من سيارته وحوله أركان القيادة, وليدور بينهما حوار مثير:
* لماذا لم تسلموا.. ألا تخشون الموت؟
ـ إننا نؤدي رسالتنا والأعمار بيد الله.
* لكنك شاب.. والأفضل أن تنجو.. لماذا أنت هنا؟ لماذا لا ترحل؟ إننا نتولي الأمور هنا.
ـ هذا عملي.. وهذه بلادنا.. والذي يجب أن يرحل لسنا نحن.
* ماذا تقصد؟
ـ أقصد ما فهمت ياجنرال.
* إذن تحملوا النتائج.. وإذا تراجعتم فإنني في الانتظار.
وانصرف الضابط, الملازم أول مصطفي رفعت, عائدا إلي الداخل ليروي لزميله وللجنود ما جري من حديث, وقبل أن ينتهي من روايته انهالت الدانات والقنابل والطلقات علي المبني ومن فيه.. وبدأت المعركة غير المتكافئة.. ونظم المصريون أنفسهم بطريقة جيدة, فإنه حرصا علي كمية الذخيرة المحدودة لم يكن الجنود يطلقون الرصاص متتابعا عشوائا, وإنما بتعليمات من الضابطين ومن حسن تقديرهم, بحيث يكون لكل طلقة هدف محدد, وفي الوقت نفسه فإن الجنود الذين ليست معهم بنادق كانوا يوزعون أنفسهم إما للإحلال مكان الذين يسقطون قتلي وجرحي, وإما لإخلاء الضحايا والبحث عن أي أقمشة بتمزيق ملابسهم في الدواليب ومفروشات بعض المقاعد لإعداد ضمادات للمصابين, وخلال ذلك لم تصدر من أحد آهة خوف, ولم تصدر من جريح آهة ألم برغم خطورة الإصابات, ومنها بتر الساق أو الذراع, أو شق البطن, أو النزيف, ومازاد من الكارثة تهدم بعض أجزاء المبني علي الموجودين.. وعندما كان يتأزم الموقف كان مصطفي رفعت يخرج مشيرا بيده فيتوقف الضرب ويتجه إلي الجنرال لمحاولة تعديل شروط الانسحاب, أو لطلب وقف إطلاق النار, وكان يعلم أن طلباته لن تستجاب لكنه كان يطيل في شرحها, لكي يعطي فرصة للرجال بالداخل لإخلاء الذين استشهدوا أو أصيبوا, ولمحاولة وضع متاريس يحتمون وراءها وهم يتعاملون مع الإنجليز.
وقبل الظهر جاء الجندي الذي يعمل علي التليفون يقول: إن وزير الداخلية الباشا فؤاد سراج الدين علي الخط, وأسرع مصطفي رفعت فسأله الباشا عما يجري, وشرح الضابط فقال الوزير: يعني.. أنتم لا تريدون الاستسلام.. إذن علي خيرة الله, وقبل أن تنتهي المكالمة سقطت قنبلة علي غرفة التليفون فانهارت وشاءت إرادة الله سبحانه أن ينجو مصطفي رفعت بينما يستشهد الجندي تحت الركام.
***
وكانت هذه الملحمة يوم الجمعة25 يناير1952 هي التي صنعت عيد الشرطة, يوما مجيدا من أيام مصر, وعندما يتذكرها مصطفي رفعت, وهو الآن في منتصف عقد التسعينيات من عمره, فإنه يروي أحداثها ببساطة لأنه يعتقد أن العمل الذي جري ليس شاذا, وإنما هو حالة مصرية متكررة, وأن الرجال الذين قاموا به ليسوا متفردين عن غيرهم وإنما هم, وهو بينهم, جزء من الشعب المصري, مثلهم مثل غيرهم, مثل إخوانهم الذين ناضلوا ضد الاستعمار في فلسطين, ومثل آبائهم الذين خرجوا من ثورة1919 وشاركوا في ثورة عرابي ومثل الجدود والأجداد الذين جاهدوا ودافعوا عن مصر عبر التاريخ, ومثل الأبناء الذين خاضوا حروب الصراع العربي ـ الإسرائيلي وحققوا نصر أكتوبر المجيد عام1953, والذين لايزالون يحرسون الحدود والوجود والتصدي للإرهاب والإجرام.