تحقيق الوحدة الإسلامية:
وصف ابن الأثير حال المسلمين عندما بدأهم
الغزو الصليبيُّ، فقال: "اتفق لهم اشتغال عساكر المسلمين وملوكهم بقتال بعضهم بعضا،
وتفرقت حينئذ بالمسلمين الآراء، واختلفت الأهواء، وتمزقت الأحوال".
فهكذا بدت الصورة في العالم الإسلامي حين حل
الصليبيون على المنطقة ضيوفًا ثقلاء وغير مرغوب فيهم، وبسبب هذه الفُرْقة والتنازع
بين المسلمين تمكنت الصليبية الغربية من ترسيخ أقدامها، وأصبحت لها ممالك ورعية
تابعة في أربع إمارات كبيرة، هي: الرها وأنطاكية وطرابلس والقدس.
وحين هبَّ المسلمون في وجه الزحف الصليبي،
الذي كان يسعى إلى قضم المزيد من الأرض الإسلامية، أيقن قادة المسلمين أنه لا نجاح
لجهودهم في وقف المد الصليبي والقضاء عليه إلا بتقوية الجبهة الداخلية وتحقيق
الوحدة الإسلامية.
وقد تعلم القائد الكبير صلاح الدين هذا الدرس
ممن سبقوه على طريق الجهاد، خاصة عماد الدين زنكي ونور الدين محمود، فحرص كلَّ
الحرص على تجميع شتات المسلمين، وإبعاد السلاطين الضعفاء عن مواقعهم؛ لأنهم يمثلون
نقطة ضعف قاتلة في الجسد الإسلامي الذي يواجه خطر المحو.
ألغى صلاح الدين الخلافة الفاطمية سنة
خمسمائة وسبع وستين، فأصبحت القوة الإسلامية تحت قيادة نور الدين كبيرة، بانضمام
مصر تمامًا إلى ممتلكاته في الشام وشمال العراق، لكن نور الدين مات بعد ذلك بعامين،
ولم تتح له الفرصة للزحف على بيت المقدس لتحريره، بل كادت هذه الفرصة تضيع من الأمة
كلها، حين ترك نور الدين للولاية بعده طفلاً في الحادية عشرة من عمره، فتنازع
الأمراء من أتباع نور الدين وأقاربه على السلطة، وحل الجد والنشاط في الصليبيين
فأخذوا يهاجمون دمشق.
زحف صلاح الدين إلى دمشق ـ بطلب من أهلها ـ
وضمها إليه بلا قتال في ربيع الآخر من سنة خمسمائة وسبعين فبدأت العداوات تتكاثر من
حوله، وراحت الحراب توجه إليه من كل ناحية، من الصليبيين ومن الأمراء المتنازعين
على وراثة تركة نور الدين، حتى استنجد بعض الأمراء بالصليبيين الذين هاجموا جيشه من
إمارة طرابلس الصليبية.
ودخل صلاح الدين في حروب حول الجزيرة وحلب،
وهو يحسب حساب خطواته، وعينه على الصليبيين القريبين منه، حتى خضعت له كل ممتلكات
نور الدين في الشام والجزيرة العربية واليمن والجزيرة بشمال العراق، وطوق الصليبيين
من كل جهات البر، وقال القائد المنتصر صلاح الدين يوسف بن أيوب: "أمور الحرب لا
تحتمل في التدبير إلا الوحدة"!!