بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ الذي نوَّر قلوبَ أوليائه بنور أنوار معرفته، وسقاهم بكؤوس كأس صفاء صافي محبته، ففتح بمفاتح الغيب أقفال قلوبهم برحمته، ورفع الحُجُب عن بصائرهم بمَكْرُمته، فلمَّا نظروا رأوا ما كان محجوبًا مما لا يراه الناظرون بمنَّته. أحمده؛ اتَّخذ نبيَّنا حبيبًا فرقَّاه بعدما نقَّاه، وأشكره؛ اصطفاه من عباده لحضرته القدسية، وصفَّاه من الكدورات النفسية، وأطْلعه علي المُلك والمَلَكوت، ورفعه على سائر البرية، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي بمشيئته تتصرَّف الأمور، وبإرادته تتقلَّب الدهور، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المصطفى لأمره ووحْيه، الذي أشرق في سماء النبوة بدرًا، وأشرف على بساط الرسالة سراجًا منيرًا، إمام المتقين، ورسول رب العالمين، وسيد الثقلين، مَن أُوتي جوامع الكَلِم، أفصح العالمين لسانًا، وأعذبهم بيانًا، وأوسطهم نسبًا، وأشرفهم حَسَبًا، وأحسنهم أدبًا، وأشهرهم أمًّا وأبًا، أفضل الحامدين، وخيرة الشاكرين، الذي كساه الله من فضله عزًّا وجمالًا ووقارًا، صلى الله عليه وعلى آله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا وصحبه الأبرار ما تناوبت الأنواء وتعاقبت الظُّلَم والأضواء، وعلى مَن تبعهم بإحسان مدى الدهور والأزمان وسلم تسليمًا كثيرًا.أما بعد، فيقول العبد المفتقر إلى عفو ربِّه الكريم ابن السمطا من آل بحر: هدانا الحقُّ للحق، وأسطع علينا نور اليقين، وجعلنا ممَّن اتبع هداه ففاز بمُناه، ولا جَعَلَنا ممَّن عانده وعصاه واتخذ إلهَهُ هواه فهامَ في موامي الردى وتردَّى في مهاوي الزور، وَمَن لمْ يَجْعَل الله له نورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ. وبعد، فهذه إطلالةٌ عاجلةٌ ولفتةٌ سريعةٌ عن السيدة نفيسة، سميتها (الدرر واللآلئ النفيسة في نبذةٍ عاجلةٍ عن السيدة نفيسة). قال الإمام الشافعي: يا آل بيت رسول الله حبّكم ... فرضٌ من الله في القرآن أنزله
يكفيكمُ مِن عظيم الفخر أنكمُ ... مَن لم يُصَلِّ عليكم لا صلاة له
والسيدة نفيسة بنت الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فهي من دوحة النبوة التي طابت فرعًا، وزَكَتْ أصلًا ،شجرة طيبة في واحةٍ طيبةٍ، ومن الشعبة المحمدية التى سَمَتْ رفعةً ونُبلًا، فهم منابع من الظمأ تروي، ومناهل بالعطاء تسري.ولدت السيدة نفيسة في سنة 145 في مكة المكرمة، وتوجَّهت مع أبيها إلى المدينة المنورة فنشأت بها في العبادة والزهادة تصوم النهار وتقوم الليل، وكانت لا تفارق حرم النبي صلي الله عليه وسلم، وحجَّت ثلاثين حجَّةً أكثرها ماشيةً، وكانت تبكي بكاءً كثيرًا وتتعلق بأستار الكعبه وتقول إلهي وسيدي ومولاي، متِّعني وفرِّحني برضاك عني؛ فلا سبب لي أتسبَّب به بحجبك عني.أمها أم ولد، وزوجها هو إسحاق بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ويُعرف بإسحاق المؤتمن، وكان من أهل الفضل والصلاح والورع، وكان محدِّثًا ثقةً مأمونًا صادقًا، وولدت السيدة نفيسة له القاسم وأم كلثوم، ولم يُعقبا، ولإسحاق عَقِبٌ بمصر منهم بنو الرقي، وبحلب بنو زهرة، وهم من غير السيدة نفيسة. رحلت نفيسة مع أسرتها إلى مصر سنة 193 هـ، ورحّب بها أهل مصر، وأقبلوا عليها يلتمسون منها العلم.قالت زينب بنت يحيى المتوَّج وهو أخو السيدة نفيسة: خدمت عمتي نفيسة أربعين سنة فما رأيتها نامت بليل ولا أفطرت بنهار، فقلت: أَمَا ترفقين بنفسك؟ فقالت: كيف أرفق بنفسي وقُدَّامي عقباتٌ لا يقطعهنَّ إلا الفائزون.قال القضاعي: قيل لزينب بنت أخي السيدة نفيسة رضي الله عنها: ما كان قوت السيدة نفيسة؟ قالت: كانت تأكل في كل ثلاثة أيام أكلة، وكانت لها سلَّة معلَّقة أمام مُصلَّاها، فكانت كلَّما اشتهت شيئًا وجدتْه في السلَّة، وكنتُ أجد عندها ما لا يخطر بخاطري، ولا أعلم مَن يأتي به، فتعجَّبتُ من ذلك، فقالت لي: يا زينب، مَن استقام مع الله تعالى كان الكون بيده وفي طاعته. وعن زينب أيضًا قالت: كانت عمتي نفيسة تحفظ القرآن وتفسيره، كانت تقرأ القرآن وتبكي وتقول: إلهي وسيدي، يسِّر لي زيارة خليلك إبراهيم عليه السلام، فحجَّت هي وزوجها إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق ثم زارت قبر الخليل إبراهيم عليه السلام، ثم رجعت إلى مصر.استقامت السيدة نفيسة رضي الله عنها بطاعة الله، فأكرمها الله بكرامات كثيرة نذكر بَعضًا منها: فمن كراماتها رضي الله عنها ما يُروى أنه حينما قدمت إلى مصر كان بجوار الدار التي نزلت بها إمرأة يهودية لها ابنة مشلولة مُقعَدة لا تقدر على الحركة، فأرادت الأم أن تذهب إلى الحمام، فقالت لها: يا بنيَّتى، ما أصنع فى أمرك؟ هل لك أنْ نحملك معنا إلى الحمَّام؟ قالت البنت: يا أمَّاه، اجعليني عند هذه الشريفة التي بجوارنا حتى تعودي. فجاءت الأم إلى السيدة نفيسة واستأذنتها في ذلك، فأذنت لها، فأتتْ بها إليها، ووضعتْها فى جانب البيت، ومَضَتْ. فجاء وقت صلاة الظهر، فقامت السيدة نفيسة فتوضّأت إلى جانب الصبيَّة ، فجرى الماء إليها فألهمها الله تعالى أنْ أخذتْ من ماء الوضوء وجعلتْ تمرّ به على أعضائها، فشُفِيتْ، بإذن الله تعالى، وقامت تمشى كأن لم يكن بها شىء، فلما جاء أهلها خرجت إليهم تمشى، فسألوها عن شأنها، فأخبرتهم، فأسلموا. ثم شاع خبر البنت وخبر إسلام أمها وأبيها وجماعتهم، فأسلم فى هذه الواقعة ما يزيد على سبعين من اليهود، وهم أهل تلك الحارة.ومن كراماتها أيضًا أنَّ امرأةً عجوزًا كان لها أربع بنات يتقوّتْن من غزلهن من الجمعة إلى الجمعة، وفي آخر الجمعة تأخذ العجوز غزلهنَّ وتمضي به إلى السوق فتبيعه وتشتري بنصف ثمنه كتَّانًا وبنصفه الآخر ما يَقْتَتْنَ به. فأخذت العجوز الغَزْل فى خرقة حمراء وذهبت به إلى السّوق على عادتها، فبينما هى فى أثناء الطريق إذا بطائر انقضّ على الخرقة الحمراء التى فيها الغزل واختطفها من العجوز، فسقطتْ العجوز إلى الأرض مغشيًّا عليها، فلما أفاقت قالت: كيف أصنع بأيتام ضعفاء قد أجهدهم الجوع والفقر ؟! وشكت، فاجتمع عليها الناس وسألوها عن خبرها، فأخبرتْهم بالقصة، وكانت قريبةً من منزل السيدة نفيسة فدلّها الناس عليها وقالوا لها: امضي إليها واسأليها الدعاء، فإن الله يزيل عنك ما تجدينه من الهمّ. فلما جاءت إلى السيدة نفيسة أخبرتها بما جرى لها مع الطير، وبكتْ، وسألتْها الدعاء، فرحمتها السيدة نفيسة رضى الله عنها ورفعتْ رأسَها إلى السماء وقالت: اللهمّ يا مَن علا فاقتدر، ومَلَكَ فَقَهَر، اجبُر مِن أَمَتِكَ هذه ما انكسر، فإنها هى وأطفالها عيالك. ثم قالت: اقعدي على الباب، فإن الله على كل شىء قدير. فقعدت المرأة عند الباب وفى قلبها لهيب النار على الأطفال، فما كان إلّا أن جلستْ ساعةً يسيرةً، وإذا بجماعة قد أقبلوا واستأذنوا عليها، فأذنت لهم، فدخلوا وسلّموا عليها، وقالوا لها: قد جئناكِ لنخبركِ بأمر عجيب؛ نحن قومٌ تجّار، لنا مدة فى السفر فى البحر، ونحن بحمد الله سالمون آمنون، فلمَّا وصلنا إلى هذه البلدة انفتحت المركب ودخلها الماء وأشرفْنا على الغرق، وجعلنا نسدّ المكان المنفتح، وبقيت قطعة صغيرة لم نجد لها ما نسدُّها به، فاستغثنا إلى الله تعالى وتوسَّلْنا بكِ إليه، فإذا بطائرٍ ألقى إلينا خرقةً فيها غَزْلٌ فوضعناها في المكان المنفتح فانسدَّ بإذن الله تعالى ببركتك. وقد جئنا بخمسمائة درهم فضة شكرًا لله على السلامة. فعند ذلك بكتْ السَّيِّدة نفيسة رضي الله عنها وقالت: إلَهي، ما أرأفكَ وألْطفكَ بعبادك! ثم نادت العجوز فجاءت، فقالت لها السَّيِّدة: بكَمْ تبيعين غَزْلك كلَّ جمعة؟ فقالت: بعشرين درهمًا. فقالت: أبشري، فإنَّ الله عوَّضكِ عن كلِّ درهمٍ خمسًا وعشرين درهمًا. ثم قصَّت القصة عليها، ودفعتْ لها ذلك فأخذتْه وأتتْ بناتها، فأخبرتهنَّ بما جرى، فتركْنَ الغزل وجئنَ إلى بيت السيدة نفيسة وقبَّلن يدها وتبرَّكنَ بها.ومن كرامتها ما حكى بعض المشايخ أنه كان فى زمنها أمير، وكان الغالب على أحواله الظلم، وأنه طلب إنسانًا ليعذِّبه ظلمًا، فقبض على الرجل أعوانُ الأمير، فبينما هو سائر معهم إذ مرَّ على السيدة نفيسة، فاستجار بها، فدعتْ له بالخلاص وقالت له: حجب الله عنك أبصار الظالمين. فمضى ذلك الرجل حتى وقف بين يدى الأمير، فلم يَرَهُ الأمير، فقال الأمير لأعوانه: أين فلان؟ قالوا: إنه واقف بين يديك. فقال الأمير: واللهِ ما أراه. فقالوا له: إنه مرَّ بالسيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد رضى الله عنها، وسألها الدعاء، فقالت: حَجَبَ اللهُ عنك أبصار الظالمين. فقال: أَوَبَلغَ من ظُلمي هذا يا رب، إنى تائبٌ إليك. ثم بكى واستغفر. فلمَّا تاب ونصح فى توبته وأخلص فى نيَّته إذا به يرى الرجل وهو واقفٌ بين يديه، فدعاه وقبّل رأسه، وألبسه أثوابًا سَنِيَّة، وصرفه من عنده شاكرا، ثم إنه جمع ماله وتصدّق ببعضه على الفقراء والمساكين، وذهب إلى السيدة نفيسة رضى الله عنها ومعه مائة ألف درهم وقال: خذى هذا المال شُكرًا لله تعالى بتوبتى. فأخذتْه وصَرَّتْه صُرَرًا بين يديها، وفرَّقتْه عن آخره. وكان عندها بعض النساء فقالت لها: يا سيدتى، لو تركْتِ لنا شيئًا من هذه الدراهم لنشترى به شيئًا نفطر عليه!! فقالت لها: خُذِي غَزْل يدي بيعيه بشىءٍ نُفطر عليه. فذهبت المرأة وباعت الغزل وجاءت لها بما أفطرت به هى وإيَّاها، ولم تأخذ من المال شيئا.ومن كراماتها زيادة النيل؛ توقَّف النيل عن الزيادة في زمنها، فحضر الناس إليها شاكِين ما حصل من توقُّف النيل، فدفعتْ قِناعها إليهم وقالت لهم: ألْقُوه في النيل. فألْقَوْه فيه، فزاد حتى بلَّغ اللّهُ به المنافع.ومن كراماتها إطلاق الأسير؛ أُسِرَ ابنٌ لامرأةٍ ذِمِّية في بلاد الروم، فأتتْ إلى السيدة نفيسة وسألتْها الدعاء أن يردَّ الله ابنَها عليها، فلما كان الليل لم تشعر الذمِّية إلَّا بابْنِها وقد هجم عليها دارَها، فسألتْه عن خبره فقال: يا أُمَّاه، لم أشعر إلَّا ويدٌ قد وقعتْ على القيد الذي كان في رجليَّ وقائلٌ يقول: أطلِقوه، قد شفعتْ فيه نفيسة بنت الحسن. فوالَّذِي يُحْلَف به يا أُمَّاه لقد كُسِر قَيْدي وما شعرتُ بنفسي إلَّا وأنا واقفٌ بباب هذه الدار. فلمَّا أصبحت الذمِّية أتتْ إلى السيدة نفيسة وقصَّت عليها الخبر وأسلمتْ هي وابنُها وحَسُن إسلامُهما.ومن كرامتها: أن الشافعى رضى الله عنه كان إذا مَرِض يرسل لها إنسانًا من تلاميذه كالربيع الجيزي، والربيع المرادي، وغيرهما، فيسلِّم المرسَل عليها ويقول لها: إنّ ابن عمِّك الشافعي مريضٌ ويسألكِ الدعاء. فتدعو له، فلا يرجع له القاصدُ إلَّا وقد عُوفي من مرضه. فلمَّا مَرِض مرضَه الذي مات فيه أرسلَ لها على جاري العادة يلتمس منها الدعاء، فقالت للقاصد: «متَّعه الله بالنظر إلى وجهه الكريم». فجاء القاصد له، فرآه الشافعى فقال: ما قالت لك؟ قال: قالت لى كيت وكيت. فعَلِم أنه ميِّت، فأوصى.وفاتُها: احتضرت رضي الله عنها وهي صائمة، فألزموها الفِطْر فقالت: واعجباه، لي منذ ثلاثين سنة أسألُ الله أن ألقاه وأنا صائمة وأُفْطِر الآن!! هذا لا يكون، ثم قرأت سورة الأنعام، فلمَّا وَصَلتْ إلى قوله تعالى: (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ) غشي عليها، قالت زينب: فضممتها إلى صدري فتشهدت شهادة الحق وقُبِضتْ. رحمة الله عليها. وكانت قد حفرتْ قبرَها بيدها في البيت الذي كانت قاطنةً به، وهو المشهد، فلمَّا ماتت اجتمع الناس من القُرى والبلدان وأوقدوا الشموع تلك الليلة، وسُمِع البكاء من كل دارٍ بمصر، وعَظُم الأسف والحزن عليها، وصُلِّي عليها في مشهد حافل لم يُرَ مِثْلُه.وأراد زوجها إسحاق أن يحملها إلى المدينة المنورة كي يدفنها فاجتمع أهل مصر إلى أمير البلد واستجاروا به إلى إسحاق ليرده عمَّا أراد، فأَبَى، فجمعوا له مالًا وفيرًا وسألوه أن يدفنها عندهم فأَبَى أيضًا، فباتوا منه في مشقَّة عظيمة، فلما أصبحوا اجتمعوا عليه فوجدوا منه غير ما عهدوه بالأمس، فلما سألوه عن السبب قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لي: رُدَّ عليهم أموالهم وادفنْها عندهم. وذلك في سنة ثمانٍ ومائتين.(رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
ابن السمطا من آل بحر من نسل عيسى بن خلف بن بحر الشهير برحمة من نسل الحسين بن علي رضي الله عنه، وأم الحسين هي السيدة البتول فاطمة الزهراء بنت سيدنا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم