بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي اختار لحبيبه محمدٍ أصحابَه فهُم الأحباب والخِلَّان، فنوَّر قلوبَهم وأسرارَهم بما أودع من فضْله فيهم من البراهين والعِرفان، فغَمَرهم بجزيل عطائه وأفاض لهم من معرفته فاطمأنَّت بذلك قلوبهم فهُم الساده حقًّا بتطابق الدليل والبرهان، جعل منهم خلفاء لسيد الأنبياء، ومنهم العُرَفاء الأصفياء المقربون إلى الرُّتَب الرفيعة، المنزهون عن النِّسَب الوضيعة، والمؤيدون بالعرفان، أحمده إذ جعل أمَّتنا خير أُمَّة، وبعث فينا رسولًا منا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة، ونشكره على الكثير من نعمه الجمَّة، وبتوفيقه أستند لعظيم المنَّه، وبشفيع المَحْشر أستسعد، وباقتفاء هَدْيِه واتِّباع أمره أستمجد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُكتب بها الحسنات، وتُمحى بها السيئات، وتُنجي من المهلكات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله، النبي الأمِّيّ، المعصوم العربيّ، القُرشيّ الهاشميّ، المكيّ الأبطحيّ ثم المدنيّ، صلى الله عليه وسلم، فهو العفيف الشريف، والبشير النذير، والسراج المنير، خير ظَهِير، سيِّد ولد آدم في الدارين، ورسول الله إلى الثقَلين، وعلى آله وصحبه الذين كسروا جيوش المَرَدة وفتحوا الحصون، الذين اقتفوا آثارَه واتَّبعوها، وسمعوا مقالته فوعَوْها، فأدَّوها كما سمعوها، فهُم نجوم الهدى، و أولو الفضل والوفا، وأهل العطاء والكرم، السابقون في حلبة مكارم الأخلاق ومحاسن الشِّيَم، وعلى التابعين لهم إلى يوم الدين، وبعد:
فيقول العبد المقصّر القاصر، الراجي عفو الرءوف القادر، ابنُ السمطا من آل بحر: سوف نذكرإن شاء الله تعالى هذه النُّبَذ الخاطفة عن الأربعة الخلفاء، السادة الحنفاء، المميَّزين بالرعاية والولاية والاصطفاء، سادتنا وأئمتنا ذَوُو الفخر العليّ والقَدْر الجَلِيّ، أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي، كما قال سلفنا الصالح عن فضلهم، ودَعَوا إلى ذِكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلهم أجمعين والكفِّ عن الذي شَجَر بينهم، فمن سبَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو واحدًا منهم فهو مبتدع، لأنَّ حبَّهم سُنَّة، والدعاء لهم قُربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة، وخير هذه الأمَّة بعد نبيِّها صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضوان الله عليهم، خلفاء راشدون مهديُّون، وإني إذْ أقدِّم هذه اللفتة العاجلة والمختصرة ومع الخليفة الأول للنبي صلي الله عليه وسلم، هذا الخليفة عظيم القدر رفيع المنزلة، الذي نصر الرسول صلى الله عليه وسلم يوم خذَله الناس، وآمن به يوم كفر به الناس، وصدَّقه يوم كذَّبه الناس, وقال النبي عنه: «ما لأحدٍ عندنا يدٌ إلا وقد كافأناه، ما خلا أبا بكر؛ فإن له عندنا يدًا يُكافئه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مالُ أحدٍ قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنتُ متخذًا لاتخذت أبا بكر خليلًا» .
هو أبو بكر الصديق، وهذه كنيته (أبو بكر) وأما اسمه فـ(عبد الله)، وأبوه (أبو قحافة) هذه كنيته، أسلم أبوه يوم فتح مكة، وعاش بعد أبي بكر، واسم أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر وهو قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان التَّيمي القرشيّ، يلتقي مع النبي صلي الله عليه وسلم في الجد السادس (مرة بن كعب). وأم الصدِّيق: سلمى بنت صخر بن عامر بن عمرو بن كعب، وهي ابنة عم أبيه.
وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة وأول الخلفاء الراشدين، ولد في مكة سنة 573م بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر.
أما أزواجه وأبناؤه فلأبي بكر من الولد: (عبد الله، وأسماء ذات النطاقين) وأمهما قتيلة بنت عبد العزى. و(عبد الرحمن، وعائشة أم المؤمنين) وأمهما أم رومان بنت عامر بن عويمر. و(محمد بن أبي بكر) وأمه أسماء بنت عميس، و(أم كلثوم بنت أبي بكر) وأمها حبيبة بنت خارجة بن زيد، مات أبو بكر وأمها حامل بها، فلما توفي أبو بكر ولدت بعده.
ألقابه: (الصِّدِّيق)، ولُقِّب بـ الصِّدِّيق لأنه أول من صدَّق بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالغَ في تصديقه كما في صبيحة الإسراء وقد قيل له: إنَّ صاحبك يزعم أنه أُسْرِيَ به. فقال: إن كان قال فقد صدق. وجاء في تفسير قوله الله سبحانه: (والذي جاء بالصِّدق وصدَّق به أولئك هم المتقون) جاء في تفسيره: الذي جاء بالصِّدْق هو النبي صلى الله عليه وسلم ، والذي صَدَّق به هو أبو بكر رضي الله عنه. وهو أول من صدَّق وآمَن بالنبي صلى الله عليه وسلم من الرجال، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم (الصِّديق)؛ روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صَعِد أُحُدًا وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال : «اثبتْ أُحُد، فإنما عليك نبيّ وصدِّيق وشهيدان».
وقد أسلم علي يديه الكثير، وممَّن أسلم على يديه: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم.
وأعتق أبو بكر سبع رقاب، وهم (بلال بن رباح) مر به وهو يُعذَّب، فاشتراه من أميَّة بن خلف بعبدٍ له أسود، فأعتقه وأراحه من العذاب، و(عامر بن فهيرة) و(أم عُبَيْس)، و(زِنِّيرة) التي أُصيب بصرها حين أعتقها أبو بكر، فقالت قريش عند ذلك: ما أذهبَ بَصَرَها إلا اللات والعزى. فقالت: كذبوا وبيتِ الله، ما تضرُّ اللات والعزى وما تنفعان. فردَّ الله إليها بصرَها. و(النهديَّة وابنتها) اشتراهما من بني عبد الدار؛ بعثتْهما سيدتهما تطحنان لها، فسمعها أبو بكر وهي تقول لهما: واللهِ لا أعتقكما أبدًا. فقال أبو بكر: حل يا أمَّ فلان. فقالت: حل! أنتَ أفسدتَهما فأعتِقهما. قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا. قال: قد أخذتُهما، وهما حُرَّتانِ، أرجِعا إليها طحينَها. قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نردُّه إليها؟ قال: ذلك إنْ شئتما. و(جارية) كانت لبني مؤمل -حيٌّ من بني عديّ- كان عُمَر يضربها على الإسلام قبل إسلامه.
وقال أبو قحافة لأبي بكر: يا بُنَيَّ، إنِّي أراك تعتق رقابًا ضِعافًا، فلو أنك إذْ فعلْتَ ما فعلْتَ أعتقتَ رجالًا جُلْدًا يمنعونك ويقومون دونك؟ قال: فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا أبتِ، إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل. قال: فيُتحدث أنه ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال له أبوه؛ {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى} [الليل: 5، 6] إلى قوله تعالى: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى} [الليل: 19 - 21] .
وكان أبو بكر رضي الله عنه يُسَمَّى (الأوَّاه) لرأفته، أما لقبه بـ(عتيق) قيل لأنه كان جميلًا، وقيل: قديم في الخير، وأخبرت أم المؤمنين عائشة أن أبا بكر دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت عتيق اللهِ من النار». فيومئذ سُمِّى عتيقا. وقيل : كانت أم أبي بكر لا يعيش لها ولد، فلمَّا ولدتْه استقبلتْ به البيت فقالت: اللهم إن هذا عتيقك من الموت، فهَبْه لي.
وهوصاحب النبي في الغار يقول الله تعالي (ثانيَ اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) صدق الله العظيم. يقول أبوبكر في هذا الموقف: قلت للنبي صلي الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أنَّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. فقال: « ما ظنُّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما».
وروى الزهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: «هل قلت في أبي بكر شيئا؟» فقال: نعم، فقال: «قل وأنا أسمع»، فقال:
وثانيَ اثنينِ في الغارِ المُنِيف وقد *** طاف العـدوُّ به إذ صَعَّـدَ الجبلا
وكان حِبَّ رسولِ الله قد عَلِموا *** من البريَّة لم يَعْدِل به رجُــلا
قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: «صدقت يا حسان، هو كما قلت».
وعن محمد بن سيرين قال: ذُكِر رجالٌ على عهد عمر رضي الله عنه، فكأنهم فضّـلوا عمر على أبي بكر رضي الله عنهما ، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال : واللهِ لَلَيْلةٌ من أبي بكر خير من آل عمر، ولَيومٌ من أبي بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لينطلق إلى الغار ومعه أبو بكر، فجعل يمشي ساعةً بين يديه وساعةً خلفه حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا بكر، ما لك تمشي ساعةً بين يدي وساعةً خلفي. فقال: يا رسول الله أذكُر الطلبَ فأمشي خلفك، ثم أذكر الرَّصَد فأمشي بين يديك. فقال: يا أبا بكر، لو كان شيءٌ أحببتَ أن يكون بك دوني؟ قال: نعم والذي بعثك بالحق، ما كانت لِتكون من مُلِمّة إلا أن تكون بي دونك. فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانَك يا رسول الله قم، قال : انزل يا رسول الله، فنزل . فقال عمر : والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر . رواه الحاكم والبيهقي في دلائل النبوة.
ولما هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ ماله كله في سبيل الله وأنفقه كله لما حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على النفقة. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أَمَرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالًا، فقلت: اليومَ أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا. قال : فجئتُ بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيتَ لأهلك؟ قلت: مثلَه. وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: يا أبا بكر ما أبقيتَ لأهلك؟ فقال : أبقيت لهم الله ورسوله. قال عمر: قلتُ: واللهِ لا أسبقه إلى شيءٍ أبدًا. رواه الترمذي.
وقال عمرو بن العاص لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أحب إليك؟ قال : عائشة . قال : قلت : من الرجال؟ قال : أبوها. رواه مسلم.
وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: «عبدٌ خيَّره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده». فبكى أبو بكر وبكى فقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمَنا به.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أمَنَّ الناس عليَّ في ماله وصُحبته أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلا لاتخذتُ أبا بكر خليلًا، ولكن أُخُوَّة الإسلام، لا تبقينَّ في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر».
وقال عليه الصلاة والسلام : «مَن أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دُعِي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير. فمَن كان من أهل الصلاة دُعِي من باب الصلاة، ومَن كان من أهل الجهاد دُعِي من باب الجهاد، ومَن كان من أهل الصدقة دُعِي من باب الصدقة، ومَن كان من أهل الصيام دُعِي من باب الصيام وباب الريان. فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يُدعى من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال : نعم ، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر». رواه البخاري ومسلم.
وكان رضي الله عنه تاجرًا من تجار قريش ومن ساداتها وأغنيائها في الجاهلية، وكان أحد الرافضين لعبادة الأصنام؛ فلم يسجد رضي الله عنه لصنم قط، ولم يشرب الخمر في حياته أبدًا.
وكان أبو بكر رضي الله عنه أعرف العرب بالأنساب، وكان يوصَف رضي الله عنه وأرضاه بأنه أبيض اللون، نحيف البدن، ذو قامةٍ حسنةٍ، أجنأ؛ أي لديه ميل في ظهره، دقيق الساقين، خفيف العارضَينِ، ولحيتُه مخضَّبة بالحناء.
وعن ابن إسحاق قال: ثم إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحقٌّ ما تقول قريش يا محمد من تَرْكِك آلهتنا وتسفيهِك عقولنا وتكفيرك آباءنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى، إني رسول الله ونبيّه، بعثني لأبلِّغ رسالته وأدعوك إلى الله بالحق، فواللهِ إنه لَلْحق، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره ، والموالاة على طاعته» ، وقرأ عليه القرآن ... فأسلم وكفر بالأصنام وخلع الأنداد وآمن بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدِّق.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما دعوتُ أحدًا إلى الإسلام إلا كانت عنه كبْوةٌ وتردّدٌ ونظرٌ، إلا أبا بكر، ما عتم منه حين ذكرته وما تردّد فيه».
قال علي بن ابي طالب: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذتْه قريش فهذا يَجَأُه (وجَأَه: دفعه بجمع كفه في الصدر أو العنق) وهذا يُتَلْتله (أي: يحركه ويزعزعه من مكانه) وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهًا واحدًا؟! فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويجأ هذا ويتلتل هذا وهو يقول: ويلَكم، أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله. ثم رفع عليٌّ بُردة كانت عليه فبكي حتى اخضلَّت لحيتُه، ثم قال: أنشدكم الله، أمؤمنُ آل فرعون خيرٌ أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبوني! فوالله لَساعةٌ من أبي بكر خيرٌ من مِثل مؤمن آل فرعون؛ ذاك رجلٌ يكتم إيمانَه، وهذا رجلٌ أعلن إيمانه.
وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا وأُحُدًا، وثبت حين انكشف المسلمون، كما شهد معه المشاهد كلها، وحمل الراية العظمى في غزوة تبوك، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم أميرًا على الحج في أول حجةٍ كانت في الإسلام.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبو بكر وعمر سيِّدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين ما خلا النبيين والمرسلين، لا تُخبرهما يا علي» أخرجه الترمذي.
وعن الحسن بن علي – رضي الله عنه – قال :" لما احتضر أبو بكر رضي الله عنه قال : يا عائشة انظري اللقحة التي كنا نشرب من لبنها، والجفنة التي كنا نصطبح فيها، والقطيفة التي كنا نلبسها، فإنا كنَّا ننتفع بذلك حين كنا في أمر المسلمين فإذا متُّ فرُدِّيه إلى عمر. فلما مات أبو بكر رضي الله عنه أرسلتْ به إلى عمر رضي الله عنه، فقال عمر رضي الله عنه: رضي الله عنك يا أبا بكر، لقد أتعبتَ مَن جاء بعدك.
وقال الإمام جعفر لصادق : (ولدني أبو بكر مرَّتين) وسبب ذلك أنَّ أمَّ جعفر الصادق هي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.
ومن كرامات أبي بكر رضي الله عنه ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن أبي بكر، أن أصحاب الصُّفَّة، كانوا أناسًا فقراء وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإن أربع فخامس أو سادس» وأن أبا بكر جاء بثلاثة، فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة. ثم قال: وإن أبا بكر تعشَّى عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لبث حيث صليت العشاء، ثم رجع، فلبث حتى تعشَّى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله، قالت له امرأته: وما حبسك عن أضيافك - أو قالت: ضيفك - قال: أوما عشَّيتيهم؟ قالت: أَبَوْا حتى تجيء، قد عرضوا فأَبَوْا، قال: فذهبت أنا فاختبأت، فقال يا غنثر (الغنثر: الثقيل الوخم، وقيل: الجاهل، وقيل: السفيه، وقيل: اللئيم) فجدَّع (أي: دعا عليه بالجدع وهو قطع الأذن أو الأنف أو الشفة) وسبَّ، وقال: كلوا لا هنيئا، فقال: واللهِ لا أطعمه أبدًا. وايم اللهِ ما كنَّا نأخذ من لقمةٍ إلا ربا من أسفلها أكثر منها -قال: يعني حتى شبعوا- وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر منها، فقال لامرأته: يا أخت بني فراس ما هذا؟ قالت: لا وقرَّة عيني، لَهِي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات، فأكل منها أبو بكر، وقال: إنما كان ذلك من الشيطان - يعني يمينه - ثم أكل منها لقمة، ثم حملها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصبحت عنده، وكان بيننا وبين قومٍ عقدٌ، فمضى الأجل، ففرقنا اثنا عشر رجلًا، مع كل رجل منهم أناسٌ، الله أعلم كم مع كلِّ رجل، فأكلوا منها أجمعون، أو كما قال.
ومن كراماته أيضًا ما رواه الإمام مالك في الموطأ عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نَحَلَها جادَّ عشرين وسقًا من ماله بالغابة، فلما حضرتْه الوفاة قال: واللهِ يا بُنَيَّة ما مِن الناس أحدٌ أحبّ إليَّ غنًى بعدي منك، ولا أعزّ عليَّ فقرًا بعدي منك، وإني كنتُ نَحَلْتُك جادَّ عشرين وسقًا، فلو كُنتِ جددتيه واحتَزْتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارثٍ، وإنما هما أخواك وأُختاك، فاقتسِموه على كتاب الله. قالت عائشة: فقلت: يا أبتِ، واللهِ لو كان كذا وكذا لتركتُه. إنَّما هي أسماء، فمن الأخرى؟ فقال أبو بكر: ذو بطن بنت خارجة، أراها جارية.
قال النووي: معنى هذا الكلام: إنما يرثنى أنتِ وأخواكِ وأختاكِ. فأما أخواها فهما: عبد الرحمن ومحمد ابنا أبى بكر، وأما أختاها فأسماء وأم كلثوم ابنتا أبى بكر، وأم كلثوم هى التى كانت حملًا فى وقت كلام أبى بكر، فقالت عائشة: مَن أختاى؟ تعنى: إنما لى أخت واحدة وهى أسماء، فمن الأخرى؟ فقال: هى ذو بطن بنت خارجة يعنى الحمْل الذى فى بطن بنت خارجة فإنى أظن الحمل بنتًا لا ابنًا. وبنت خارجة هى زوجة أبى بكر، وكانت حاملًا حال كلام أبى بكر ... وهذه القصة من كرامات أبى بكر رضى الله تعالى عنه.
توفي أبو بكر الصديق لثمان ليالٍ بَقِين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، وكانت ولايته سنتين وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يومًا، وغسلته امرأته أسماء بنت عميس، أوصاها بذلك، فقالت: لا أطيق، فقال: يعينك عبد الرحمن. وكُفِّن في ثلاثة أثواب، ونزل في قبره عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن أبي بكر، ودُفن ليلًا بجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأراد ابن عمر أن ينزل قبر أبي بكر مع أبيه فقال له عمر: قد كُفِيت، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وجمعنا بهم في دار كرامته إن شاء الله آمنين، آمين.
(رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
ابن السمطا من آل بحر من نسل عيسى بن خلف بن بحر الشهير برحمة من نسل الحسين بن علي رضي الله عنه، وأم الحسين هي السيدة البتول فاطمة الزهراء بنت سيدنا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم