معركـة مصيريّـة
--------------------------------------------------------------------------------
كنت أتنفس بصعوبة.. أعلم أن من سيرانى على هذا الحال سيظن أننى خائف، و لكن هذا بالفعل يحمل شئ من الحقيقة. نعم بداخلى قدرا من الرهبة، فالمواجهة القادمة ليست سهلة أبدا. عرق غزير ينبت على جبهتى وينسال ببطء مزعج على وجهى. تنقبض أصابعى من آن لآخر على أغراضى وكأننى أستمد منها الشعور بالأمان
العربة التى تنقلنا الى ميدان المعركة ممتلئة حقا بالرفاق. الأجساد متداخلة مع بعضها البعض، لدرجة تجعلنى أستغرب كيف سنبدأ المواجهة و نحن على هذا الحال لا يعرف أحدنا كيف يسحب أطرافه من بين زملائه
*******
العربة تقترب بنا من ميدان المعركة بسرعة. ومع كل متر تقطعه تتصاعد دقات قلبى. لن تكون معركة سهلة أبدا. أنظر الى وجوه زملائى، فأرى الرهبة فى وجوه بعضهم، وأحدهم يردد آيات القرآن الكريم. نظرت الى وجه قائدنا الذى يتقدمنا، ورأيت فى عينيه قوة و عزما غير عاديين
شيئا فشئ تتسرب عدوى الحماسة و العزيمة الينا جميعا. لن ننهزم هذه المرة. أنا المصرى سليل الفراعين. لن أدعهم يدحروننى هذه المرة. أسرح بذهنى لأسترجع تاريخ وطنى وأمتى. من هذا الوطن خرج رمسيس الثانى الذى هزم الحيثيين فى قادش.. وخرج أحمس الذى طرد الهكسوس وطهر البلاد منهم. ومن أرضى خرج الناصر صلاح الدين ومن وراءه الآلاف المؤلفة من أبناء وطنى لدحر الصليبيين فى حطين. من بلادى خرج الجيش العظيم الذى مزّق التتار فى عين جالوت وكسر شوكتهم. كيف لهم أن يهزموننى بعد هذا التاريخ العظيم
*******
العربة تقترب من الميدان.. أرى أضوائهم من تتبدى لى من بعيد. من الذى أعاد بونابرت الى فرنسا بخفىّ حنين؟ من الذى تصدى لحملة فريزر؟ من الذى قاتل الترك تحت لواء ابراهيم باشا وانتصر عليهم؟
التاريخ المشرف يتتابع فى ذهنى فيملؤنى ثقة و عزما. أشعر بدماء الحماسة تفور فى عروقى فتلهبها.. العربة تبطئ من سرعتها لدى اقترابها من خطوطهم
أجيل بصرى فى وجوه الرفاق. أرى قوة و تصميما بلا حدود. الكل مصمم على النصر. العدد ضخم حقا، فلن نغلب اليوم من قلة. نحن من تصدى للعدوان الثلاثى سنة 56. نحن من حطم اسطورة خط بارليف فى 73
*******
توقفت العربة تماما، وصار العدو أمامنا مباشرة. لأول وهلة انتابتنى الرهبة لما رأيته من ضخامة أعداده، و لكننى سرعان ما تمالكت رباطة جأشى، لأننى مؤمن أن النصر من عند الله. تمر الثوانى بطيئة، و نحن.. الجيشان.. متواجهان نتبادل نظرات التحدى. تنقبض عضلاتى من فرط التحفز، و تزداد أصابعى الملتفة حول أغراضى قوة و صلابة
للحظة أسرح بذهنى. الفلسطينيون يقاتلون فى الأراضى المقدسة. حزب الله يدافعون بضراوة عن ربوع لبنان. المقاومة العراقية تملأ نهرى دجلة والفرات بجثث المحتلين، بينما الأفغان يحيلون حياة الغزاة الى جحيم. أما هنا على أرض الكنانة. مصر العظيمة. فالمعركة الكبرى توشك أن تبدأ. و لن نكون نحن الخاسرين باذن الله. وفى اللحظة التالية بدأ الاشتباك
*******
لم يكن الأمر هينا. كانوا يدفعوننا بقوة هائلة مدعومة من أعدادهم الضخمة. قاتلنا بكل قوانا. دافعنا ودافعوا. ومرّت لحظات صعبة حقا. رحت أوجه الضربات، وأدفع زميلى الذى يسبقنى. أصرخ بملء فيى: ملعون أبوكو ولاد كلب
تكاد أغراضى تنفلت من بين أصابعى، فأتشبت بها أكثر. ولدهشتى رأيت وجوه نساء فى صفوفهم. ياللعجب. أهذا مكان تتواجد فيه النساء؟ أليست لهم ميادين أخرى خاصة بهم؟ أقاتل بحماس أكبر، وأشعر بالظفر يجتاح أعماقى وأنا أرى صفوفهم تنشق لأعبر من بينها أنا ورفاقى الأبطال
*******
أسمع الصفير يدوى فى الأجواء فأوقن أن المعركة على وشك أن تنتهى بانتصارنا. وفى اللحظة التالية تعثرت فى قدم أحدهم، فسقطت على وجهى بين الأقدام وأسرعت لأحمى رأسى بذراعىّ، وشعرت ببعض الأقدام تطأنى لا أدرى أأقدام الرفاق هى أم أقدام الأعداء
رحت أسب وألعن. امتدت بعض الأذرع لتنهضنى على قدمىّ، وسمعت أصواتا: مش تحاسب يا أستاذ؟ ابقى خللى بالك.. قدر ولطف
وبينما كنت أنفض التراب العالق بثيابى ووجهى بعد أن وطأتنى الأقدام والأحذية تعلقت عيناى بلافتة تحمل اسم: حسنى مبارك، وسمعت هدير مترو الأنفاق الذى كنت أستقله منذ دقيقة واحدة مغادرا محطة مبارك الى محطة غمرة
نفضت بعض الأتربة العالقة بينما ظلت غالبتها تغطينى، ثم أسرعت ألتقط أغراضى من على الأرض، و أسرعت أغادر محطة المترو
*******
-شـريـف ثابـت-