الشيخ محمد صديق المنشاوي
سيرة وتحية
(1)
القارئ الشيخ الجليل محمد صديق المنشاوي علم من أعلام الإسلام, وإمام من أئمة القراءة لآيات الكتاب العزيز, رزقه الله صوتا جميلا مؤثرا وقبولا حسنا متواصلا عند جماهير الأمة الإسلامية, أوصل كلمة الله بصوته المؤثر الخاشع إلى مشارق الأرض ومغاربها, فكان خير داعية إلى الله وكتابه ودينه على مستوى العالم, على بصيرة بهذا الكتاب وتجويد مخارجه الحروفية وتعظيم ما يحتويه من قوانين إلهية ومبادئ إنسانية عالمية.
ولد الشيخ الجليل محمد صديق المنشاوي في صعيد مصر, مركز "المنشأة" محافظة سوهاج سنة 1920م, ونشأ في بيت علم وفضل واهتمام بتلاوة القرآن الكريم وتدارسه. فوالده صديق السيد كان من القراء المجيدين, اشتهر في مصر وله تسجيلات بإذاعة سوريا ولندن ما زالت تبث حتى الآن. وعمه أحمد السيد كان أيضا قارئا مشهورا, رفض القراءة في القصر الملكي بسبب شرطه الذي أعجز الملك وهو أن يمنع المقاهي من تقديم المشروبات الكحولية أثناء إذاعة القرآن من القصر الملكي.
التحق الفتى محمد بكتـّاب القرية, وعمره أربع سنوات, ففاق زملاءه في سرعة الحفظ والاستيعاب, مما لفت إليه نظر معلمه, فأحاطه المعلم "أبو مسلم" بمزيد من الرعاية والاهتمام حتى أتم ختم القرآن الكريم وهو في سن الثامنة لم يتمها. لا نعرف كيف نشكر هذا المعلم؟ فقد ساهم في نمو جناح العندليب وتقوية صوته, حتى استطاع أن يرفرف بعيدا ويشنف أسماع العالم بتغريده وترديده, وله نصيب من أجر الشيخ كلما تراكمت إلى يوم القيامة.
انتقل الفتى إلى القاهرة ليتعلم علوم القرآن ونزل في ضيافة عمه, وعند بلغ الثانية عشرة درس علم القراءات على يد الشيخ محمد مسعود الذي أعجب به وأخذ يقدمه للناس في السهرات, حتى بلغ الخامسة عشرة فاستقل عن شيخه ووالده بعد ذيوع صيته في سوهاج وما حولها.
ظل يقرأ في المساجد والمحافل حتى اشتهر أمره وصار قارئا معتمدا لدى الإذاعة المحلية, حاملا لقب "مقرئ الجمهورية المصرية المتحدة" كما قدمه المذيع من مسجد لالا مصطفى باشا بدمشق الذي قرأ فيه أوائل سورة يوسف, هو مقرئ الجمهورية المصرية المتحدة في زمنه, ومقرئ مصر والعالم في كل زمن قادم.
تزوج من ابنة عمه في سنة 1938 وعمره ثمان عشرة, فأنجب منها ابنين وبنتين, ثم تزوج الثانية بعدما تجاوز الأربعين من مركز "أخميم" بسوهاج وأنجب منها تسعة أولاد, خمسة ذكور وأربع إناث. عاش مع زوجتيه في مسكن واحد يجمعهم الحب والمودة, ويتمنى الناس مصاهرته. توفيت زوجته الثانية أثناء تأديتهما فريضة الحج قبل وفاته بسنة واحدة.
كان الشيخ المنشاوي يجل أقرانه من حفظة كتاب الله تعالى, وتعلق قلبه وأذنه بالاستماع عبر الراديو إلى المقرئين في عصره جميعا دون استثناء, وفي طليعتهم الشيخ محمد رفعت رحمه الله, فقد أحبه كثيرا وتأثر بصوته وتلاواته وحضر بنفسه حفل العزاء ليواسي أسرة الشيخ ومحبيه بما تيسر من كتاب الرحمن.
كان لين الجانب عطوفا على المساكين متواضعا للناس لا يرفض دعوة يتلقاها لإسعاد المدعوين بالقراءة, بل يجدها فرصة لإبلاغهم كلمة ربه وهو راض سعيد. لبى دعوة رؤساء بعض الدول للقراءة في الخارج, كدعوة الرئيس الأندونيسي أحمد سوكارنو, التي لباها برفقة نظيره الشيخ عبدالباسط عبدالصمد, فبكى أثناء تلاوته لبكاء الجمهور المتواصل. وقد منحه سوكارنو وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى, وحصل على وسام الاستحقاق من الطبقة الثانية من سوريا.
لكنه في المقابل, رفض تلبية دعوة لافتتاح حفل يحضره الرئيس جمال عبدالناصر, لأن الرسول وكان وزيرا قال له: ألا يكون لك الشرف حين تقرأ بين يدي الرئيس..؟ فأجاب الشيخ: ولم لا يكون هذا الشرف لعبدالناصر نفسه أن يستمع إلى القرآن بصوت المنشاوي؟ ورفض أن يلبي الدعوة قائلا: "لقد أخطأ عبد الناصر حين أرسل إلي أسوأ رسله", وهكذا يعز كتاب الله تعالى أهله وحافظيه. لم تكرمه الحكومة المصرية, وإن كرمت والده بعد وفاته عام 1985م فمنحته وسام الاستحقاق من الطبقة الثانية.
أصيب الشيخ رحمه الله بدوالي المريء منذ سنة 1966 فنصحه الأطباء بالراحة وعدم إجهاد حنجرته, إلا أنه استمر في القراءة بصوت جهوري, وظل مصطحبا كتاب ربه في أسفاره وإقامته حتى اختاره الرحيم لجواره الكريم, فالتحق به يوم 20/6/1969م, وعمره دون الخمسين. وبموته خسر العالم درة القراء وحنجرة من الجوهر بل خسروا الحنجرة السماوية.
ترك الشيخ وراءه ذرية صالحة, فكل أولاده يحفظون القرآن كاملاً, ورث منهم اثنان حلاوة صوته ونداوته, صلاح وعمر, درسا علوم القراءات وشهد لهما الكثير من المتخصصين بالبراعة والإتقان. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
(2)
شيخ القراء وسادتهم
خير مزامير الأواب التالي داوود
أروع صوت في الأرض حزين
أتمنى أن أسمعه فرحانا في الجنة
وبجانبه حور العين..
الشيخ محمد صديق مزمار من مزامير آل داود, أروع صوت في الأرض شفافية وحزنا, من مِن محبيه لا يتمنى أن يسمعه فرحانا في الجنة وحوله حور العين؟ كتبت فيه مقطوعة وجدانية أخرى, تقول أبياتها: "صوت شجي طروب/ يتدفق رويدا, رويدا/ من نهر في أعلى الجنة/ فيهتز الصخر في خشوع".
نعم, هو هكذا وأكثر, صوت شجي طروب متدفق من الفردوس يهز القلوب المتحجرة إذا أقبلت على تلاوته بنوافذ مفتوحة وروح طليقة أبية حرة. كان الشيخ رحمه الله دائم الصحبة لكتاب ربه, يتغذى روحه بالقرآن ويستشفي قلبه بآياته, ويستضيء دربه وجوانحه بنوره الذي يشع سكينة وطمأنينة.
لاحظت خلال استماعي الطويل أن الشيخ يبرع في التلاوة, غاية البراعة والخشوع, إذا كانت الآيات تتعلق بالقرآن نفسه تلاوة وتدبرا في كل وقت وبخاصة في التهجد, كغذاء للروح وشفاء للبدن, وكذا إذا تعلقت بأسماء الله الحسنى وتعظيم الله تعالى وتمجيده وتوحيده, ومنها ما يتعلق بقصة مريم والسيد المسيح, وقيل لي في ذلك إن الشيخ كان يُسر له بعض الحاضرين إذا كان فيهم أقباط بأن يقرأ آيات تتعلق بمريم والمسيح عليهما السلام, وقد أسلم بسبب تلاواته كثيرون, أخبرني بذلك طبيب مصري صعيدي من قرية مجاورة لقرية "منشأة" وليس هذا ببعيد لأنك تحس بإخلاص الشيخ في القراءة وفي ذهنه الدعوة إلى الله, تحس به يقرأ وأمام عينيه لوحة مكتوب فيها "إنما الأعمال بالنيات" وتحتها "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم" فرحمة الله تعالى عليه وعلى والديه.
كذلك لاحظت تأثره وحزنه حين يتلو آيات تتعلق بالنساء, كما في سورة الطلاق وأواخر التحريم, قصة زوجة لوط وزوجة فرعون. وهذا يعني أن الشيخ رحمه الله تعالى كان يهتم بالمشاكل الاجتماعية للناس ويتأثر لأحوال المجتمع, ولو رأى اليوم ما ينشر في المدونات المصرية من امرأة "عايزة تتجوز" ومن رجل "عايز يجوز" وآخر "مش عايز" فضلا عن "أوقفوا التعذيب" وغيرها من المدونات لبلغ به التأثر منتهاه. إن القرآن ليرقق القلب لدرجة لا يتصورها من لم يعرفه ويعايشه.
مهما تحدثت عن الشيخ المنشاوي لا أوفيه حقه, فهو فنان أسطوري- إذا جاز التعبير- في التلاوة القرآنية, مرهف الإحساس جدا, بل لأقل رهيف الإحساس لأني أحس أن هذه الكلمة بمد الهاء فيها أقرب إلى وصف إحساسه المموج, وللشيخ ذوق فني رفيع, يتذوق عبره معاني الآيات ويتحسس وقع الكلمات وجرسها فيحاول إيصال جمالها بأقصى ما يمكن وأروع ما يكون.
إلى ذلك, له منهج خاص في الترتيل يختلف عن القراء الآخرين, فتلاوته المرتلة تنقسم إلى قسمين أحدها بطئ والآخر سريع, فإذا سئمت من البطيء أخذ بأذنك مسرعا بعد فترة قد تقصر وقد تطول. وإذا مللت من السريع ترفق بك وأبطأ سرعته, وهكذا دواليك. لا أدري هل الإذاعة هي التي اقترحت عليه ذلك أم هو رأي رآه وسار عليه؟ بينما غيره من المشايخ يقرؤون المرتل بنمط واحد قد يساعد المستمع على الاسترخاء وربما قد يسلمه للنوم أيضا.
ومن خصائص المنشاوي وذوقه الفني أنه يدرك متى يتوقف كي يحدث تأثيرا في جمهور السامعين, يتعمد أحيانا التوقف أثناء الآية من أجل هدف التأثير وكسر ما تعودت عليه الأسماع والعيون. له تلاوة لسورة التكوير مجودة نادرة يتوقف فيها عند نهاية هذا الجزء من الآية: "يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك"؟ فيفاجأ المستمع بمحطة لم يألف التوقف عندها, لكنها تعطيه فرصة للتأمل في بداية الخلق بحيث يتهيأ بعدها لاستقبال عملية التسوية والتعديل لخلق الإنسان.
حتى عندما يتعب الشيخ فيقرأ الهوينى تستلذ صوته المتعب المبحوح, وإنني الآن أستمع إلى مثل هذه القراءة المتعبة, أو التي يقرؤها في فترة استراحة, من سورة يوسف, وهو يتلو: "قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف" متوقفا عند هذه الكلمة عمدا كما يبدو, حتى ليتساءل السامع: إذن ماذا يفعلون به بعد كل ما تقدم؟ وهذه تلاوة نادرة في مسجد لالا مصطفى باشا, لكن في تلاواته المجودة العادية, يحاول ألا يقرأ كذلك إلا في الربع الأخير من القرآن أو بعض السور من المفصل فيكثر منها. ولو كان الشيخ حيا لأشرت عليه أن يقرأ كذلك بلا حرج, لأن صوته جميل في كلتا الحالتين, نشيطا ومتعبا, بل قد يكون أكثر جمالا في حالة التعب, إذا كان الموضوع متعِبا أو حزينا, بل قد تشعر بقرب القارئ من نفسك أكثر وكأنه يفضفض لك مقتربا منك هامسا في أذنك. يبدو أن الموضة في تلك الأيام, وربما المنافسة مع الغير, جعلته يبتعد عن أخذ استراحة! والله أعلم.
ما سمعت الشيخ محمد يشدو بالآيات العظيمة إلا خشع له قلبي وسكنت جوارحي وارتقيت في الجنة درجات وغبت في النعيم وربما تهيبت الجحيم, ودعوت للشيخ ولأبيه ولأهله وذريته.
وإني, مع جمهور محبي الشيخ, ندين بالشكر الجزيل للفاضل خالد باغانم الذي أنتجت مؤسسته بجدة المصحف المجود الكامل للشيخ في أربعين شريط كاسيت, ففرحنا به كغيث ينهمر بعد طول جفاف واقتنيناه كتحفة لا تقدر بثمن, وإن كان هناك عدة ساعات ناقصة أكملها باغانم بالمرتل.
ومع روعة تلاوات الشيخ المرتلة, إلا أن هناك جمهورا عريضا من عشاقه مسحورون بتلاواته المجودة, ولاسيما التلاوات النادرة التي يندر أن يجود الزمان بمثلها, ومنها ما سجل له بمسجد لالا مصطفى باشا بدمشق والمسجد الأقصى ومساجد أخرى بالجزائر أو ليبيا وغيرها.
هل سمعت أوائل سورة يوسف التي سجلت بمسجد لالا مصطفى باشا؟ أو مقطع من سورة الإسراء, أو مقطع من سورة إبراهيم, أو أوائل الشعراء؟ فضلا عن قصار السور, ولاسيما سورة الفجر, وكذلك الفاتحة وأواخر البقرة وأواخر الحشر؟ هذه تلاوات جديرة بأن تهتم بالاستماع إليها, بالإضافة إلى مقاطع نادرة للشيخ الأواه عبدالباسط عبدالصمد وخصوصا مقطع من أواخر سورة الكهف بلغ فيه قمة القمم من حيث روعة التحليق واللطافة والخشوع, ولعلني أتناوله في تحية قادمة.
في حوار مع "الحاج سعودي محمد صديق" سئل: "لماذا لم يسجل الشيخ محمد صديق المنشاوي القرآن مجوداً للإذاعة؟" فأجاب بقوله: "لقد سجل الشيخ محمد صديق القرآن بصوته مجوداً للإذاعة ينقصه خمس ساعات تقريباًُ ولكن للأسف الشديد فإن المسئولين في الإذاعة لا يهتمون بتسجيلات المقرئين. وفي عام 1980م ذهبت للإذاعة ووجدت أن الشرائط المسجل عليها القرآن بصوت الشيخ محمد صديق تم تسجيل برامج أخرى عليها مثل ما يطلبه المستمعون أو خطاب الرئيس عبدالناصر وللأسف لم ننتبه لهذا الإهمال إلا عندما ذهبنا إلى الإذاعة لنحصل على نسخة من القرآن بصوته مجوداً.. أما فيما يتعلق بالقرآن المرتل فقد سجله للإذاعة كاملاً وحصلنا على نسخة منه".
فسبحان الله, كيف يسجلون برامج ما يطلبه المستمعون على تسجيلات شيخ القراء وسادتهم, كيف يمسحون تسجيلات لا تعوض بجرة قلم أسود!! إنه إهمال فظيع في حق الشيخ الذي أفنى عمره في خدمة القرآن. ماذا لو سجل أحدهم فوق أصل من أصول سيمفونيات بيتهوفن, في الغرب, أكانت الدنيا تقعد ولا تقوم؟! لكننا لا نقول سوى, حسبنا الله ونعم الوكيل