ما من أمة من الأمم في الشرق أو في الغرب، إلاّ وترفع شعـار السلام، وتجعل لنفسها النصيب الأوفر منه، وربما قادها ذلك إلى وصم غيرها بالإرهاب، وهذا الوصف لم يعد قاصراً على الشعوب والجماعات بل وُصفت به الأديان والنحل. فبعض الأديان تراعي السلام، وتحض عليه، وبعضٌ منها يدعو إلى الإرهاب ويعلي من شأنه، ولقد كان للإسلام النصيبُ الأكبرُ من هذه التهمة.
وإن من ينظرُ في تعاليم الإسـلام وأسسِه التي قـام عليها؛ ليدرك بجلاء عِظَمَ هذه الفريةِ وبطلانَها، فلا تكاد تجد ديناً يُقَدِّرُ السلام، ويحرص عليه، ويعلي من شأنه مثلَ الإسلام، بل ولا تجد جماعةً تلتزم السلامَ وتحافظُ عليه كالمسلمين.
فالإسلام هو دين السلام والحب، ويطلب من أتباعه والمنتسبين إليه أن يلتزموا السلامَ ويرفعوه، لا شعاراً، بل واقعاً ملموساً في تعاملهم فيما بينهم ومع غيرهم، على الرغم من كثرة المتشدقين بالسلام والمدعين له والمتاجرين به.
فالإسلام يدعو المسلمين لاستحضار هذا المبدأ في نفوسهم في كل زمان ومكان، بل إنه ليعقد لهم الدورات التي ترفع من مستواه في نفوسهم، ويُلْزِمُ أتباعه الانخراطَ في هذه الدورات، ولو مرة واحدة في العمر؛ لينطلق المسلم بعدها وقد تشبع بهذا المبدأ، قد قرن التنظير بالتطبيق.
وقد اختار الإسلام مكة البلد الحرام ميداناً لهذه الدورة المباركة؛ جامعاً لشرف المكان شرف الزمان، وما اختيار هذا البلد إلاّ لكونه أرضاً خلصت من كل مظاهر العنف في كل حقب التاريخ، بل لم يفارقها الأمن في الأزمان التي ساد فيها الهرج الجزيرة العربية (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)، بل إن الإسلام ليحظر على أتباعـه غرساً لهـذا المبدأ كُلَّ ما من شأنه أن يكون سبباً في تعكير صفوه من القول البذيء، واللفظ الفاحش، (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ).
بل إن السلام في الإسلام ليتعدى بني الإنسان؛ ليشمـل الحيوان، بل حتى الحشرات؛ ليوقـع العقوبة على من تعدى عليها؛ تعـادل المجنيَّ عليه، أو قريباً منه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)، بل إن السـلام في الإسلام ليأخذ بعداً آخر ليسعد به حتى النبات؛ فلا يعضد.
وتكمل مظاهر هذا الاحتفال بهذا المبدأ في الإسلام، بلبس لبوسه، فكل من أراد أن يدخل في دورة السلام، لابد أن يلبس شعاره، فلا يجاوز الميقات إلاّ وقد نزع زيّه الوطني؛ لينصهر في إخوانه من الحجـاج شكلاً ومضموناً؛ إذ تمّحي الفوارقُ الوطنية، والنزعاتُ العرقية؛ لتحل محلـها الأخوة الدينية، التي تنشد السلام وتدعو إليه؛ وترفع شعاره في أقدس بقاع الدنيا؛ لتظهر الحقيقـة الغائبـة، أو المغيبـة من أن الإسلام إنما جاء لنشر السلام.
ولا تكاد تنقضي هذه الدورة حتى يعلن المشاركون فيها حربهم على أعداء السلام، والمؤججين لنار العداوة بين بني البشر، ممثلاً في رأسهم إمامِ الكفر إبليسَ لعنه الله؛ إذ يقوم الحجاج برجمه، معلنين بداية عهد جديد توجه فيه قواهم لتقويض الشر، ونشر السلام الحق، بعد أن أقاموه في أنفسهم.
هذه الحقيقة ـ كما أسلفت ـ غابت عن كثير من المسلمين، بله غيرهم من أصحاب الملل الأخرى؛ ليأتي الحج بشعائره المختلفة، ليرفعها في زمن كثر فيه الناعقون بشعارات خواء، لا رصيد لها في عالم الحقيقة، وما يحصل في مشارق الأرض ومغاربها من قتل وتشريد واضطهاد للمسلمين، أكبر دليل على إفلاسهم، وارتكاسهم في حمأة الإرهاب، الذي طالما وصموا غيرهم به.
إن كل منصف ليدرك أن السلام الحق والحب والوئام والتسامح، لا يكـاد يوجد إلاّ في الإسلام ذلك الدين العظيـم، الذي نزل به الروح الأمين على قلـب سيـد المرسلين من لـدن الغفــور الرحيـم؛ ليقـول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً). كل عام وانتم بخير (م)