ترتسم ملامح التحدي على وجهه السبعيني.. لا يستطيع أن يغمض عينيه طويلا؛ فتارة يتفقد محيط المسجد خوفا من الدخلاء، وتارة أخرى ينهمك بأعمال التنظيف والصيانة حتى تتصبب منه حبات العرق لتتخضب بها لحيته التي خط فيها الشيب معاني الوقار.
وفي النصف الآخر من اللوحة يتربع المسجد القديم الذي تعانق جدرانه نسائم بحر يافا، متنفسا بعضا من حرية منحته إياها عراجين النخيل المحيط به، كجدار حماية طبيعي حتى لا يفكر الاحتلال في تحويل المسجد ثانية إلى محل للخمور والدعارة كما فعل من قبل.
اللوحة السابقة تروي حكاية الرجل والمسجد.. فالرجل هو الحاج سليمان مجادلة "أبو رياض" (75 عاما)، الذي أخذ على نفسه عهدا منذ 20 عاما أن يرابط في مسجد "سيدنا علي" الذي تلامس جدرانه شواطئ بحر يافا شمال فلسطين المحتلة عام 1948؛ ليصد عنه هجمات الجماعات اليهودية المتطرفة التي تحاول تدنيسه، وليستخلصه من براثن الاحتلال مسجدا خالصا للمسلمين.
بداية الحكاية
تتشابك الحروف بين شفاه أبو رياض لتخرج في كلمات منمقة تعبر عن إصرار وتحدٍّ قائلا: "في أغسطس من العام 1988 قررت الخروج أنا وأصدقائي في رحلة نزور فيها المقدسات الإسلامية في الداخل الفلسطيني، وبينما نحن نتنقل بين مسجد وآخر حطت بنا الأقدار قرب مسجد سيدنا علي في قرية الحرم في مدينة يافا".
ويتابع: "نسائم البحر العليل، وسيقان النخيل تريح النفس.. وما إن اقتربنا قليلا من مسجد سيدنا علي حتى صعقنا من ذلك المنظر.. لم نستطع أن نتمالك أنفسنا؛ فالمسجد على الرغم من موقعه الخلاب والجميل على ساحل البحر لكنه كان يروي حكاية إهمال شديد يعاني منها".
يتحسر قليلا، لكنه لا يعتب على أهالي فلسطين على هذا الإهمال؛ "فهم (أهالي القرية) تركوا بيوتهم والمسجد وهاجروا ليبحثوا لهم عن مكان يؤويهم من العصابات الصهيونية التي كانت تطاردهم منذ بداية الاحتلال عام 48".
وما إن يدخل أبو رياض إلى باحة المسجد حتى كانت الصاعقة الكبرى، يصف تلك اللحظات بالقول: "تخيل أنهم (العصابات اليهودية) حولوه إلى مكان لشرب الخمور وممارسة الدعارة.. فكل زاوية فيه تحكي جزءا من هذا الانتهاك، وشاهدة على هذا الإجرام بحقه".
وتسجل أحداث التاريخ قيام العصابات اليهودية المتطرفة بعد احتلالها للقرى والمدن الفلسطينية عام 48 بالعديد من المجازر بحق الفلسطينيين، وتهجير عشرات الآلاف منهم إلى الضفة الغربية المحتلة والدول العربية المجاورة، واستباحة كل ممتلكاتهم ومقدساتهم.
ترميم وصيانة
هذا المشهد دفع أبو رياض ورفاقه لأن يأخذوا على أنفسهم عهدا بتنظيف المسجد وصيانته، يحكي أبو رياض: "باشرنا تنظيف المسجد من كل القاذورات الموجودة فيه حتى نقطع عليهم الطريق في العودة مرة ثانية إليه".
ولم تكن الظروف آنذاك تساعدهم كثيرا في العمل بيسر على إعادة المسجد لوضعه؛ فالإمكانيات المادية غير متاحة، إلى جانب أن غالبية السكان العرب هجروا المكان واستوطن مكانهم جماعات يهودية.
لكن هذا لم يمنعهم من إكمال مشوار ترميم المسجد، وبدءوا يجمعون كل ما يحتاجون له من خلال طرق بعض البيوت العربية في القرى المجاورة، وجمع ما يمكن جمعه من مواد تساعدهم على ترتيب المسجد وتنظيفه وبدء الصلاة فيه.
حارس للمسجد
أبو رياض الذي ينحدر من منطقة المثلث في الداخل الفلسطيني والتي تبعد نحو 60 كيلومترا عن القرية التي يوجد بها المسجد قرر أن يحضر عائلته وينتقل للعيش بالقرب من مسجد "سيدنا علي".
يقول: "بعد أن رممنا المسجد ونظفناه بقيت خائفا عليه؛ فقد تعود الجماعات اليهودية إليه، لذلك قررت أن أحضر عائلتي وأعيش هنا بالقرب من المسجد لأكون حارسا له طوال حياتي".
لم تسلم عائلة أبو رياض، التي اتخذت من أحد الغرف المجاورة للمسجد بيتا لها، من مضايقات العائلات اليهودية التي احتلت القرية؛ فبين الحين والآخر كانت عائلته تتعرض لمضايقات وصلت إلى حد إلقاء بعض القنابل والحجارة، لكن هذا لم يثنها عن حراسة المسجد.
وبعد تنظيف المسجد واستخلاصه من أيدي الجماعات المتطرفة بدأت تتكاتف جهود فلسطينيي الداخل والمؤسسات الخيرية والإسلامية للحفاظ عليه؛ فراح المصلون يؤمونه من القرى والمدن المجاورة، وبدأت عمليات إعماره وترميمه تسير بشكل منتظم رغم بعض المضايقات التي ما زالت حتى اليوم من قبل المؤسسة الإسرائيلية.
ويوجد بداخل المسجد ضريح منحوت عليه كتابات تقول إنه ضريح يعود لـ"علي بن عليل بن محمد بن يوسف بن يعقوب بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب"، رضي الله عنهم.
قرية الحرم
وتقع قرية الحرم إلى الشمال من مدينة يافا، وتبعد عنها 16 كم، وتعرف أيضا باسم قرية (سيدنا علي) نسبة للضريح الموجود داخل المسجد، وتبلغ مساحة أراضيها 8065 كيلومترا مربعا.
في العام 1948 قامت العصابات اليهودية المسلحة بهدم القرية وتشريد أهلها، وأقام الاحتلال على أراضيها ما يعرف اليوم بمدينة "هرتسيليا" الإسرائيلية، والتي يعقد فيها في الوقت الراهن مؤتمر "هرتسيليا للأمن القومي الإسرائيلي" في دورته العاشرة.
كما أنشأت مستعمرة "ريشبون" على أراضي القرية عام 1936، وتبعتها مستوطنة "كفار شمويا هو" في العام 1937.
واليوم أكثر ما يميز القرية ويدلل على هويتها العربية مسجد "سيدنا علي"، وبعض المنازل العربية، والمقبرة الإسلامية التي حول الإسرائيليون جزءا كبيرا منها إلى موقف للسيارات.
فيما يشتمل المسجد على رواق ذي أعمدة وقناطر ومئذنة ترتفع فوق أحد أبنيته، ويشاهد قرب المسجد الأسس المهدمة لمنازل القرية، فيما يسكن ما تبقى من البيوت العربية عائلات يهودية.
Read more:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]