جمال عبد الناصرالمهتمون بمد الجذور المقطوعة بين مصر ودول أفريقيا، دائما ما ينظرون إلي تجربة «شركة النصر للتصدير والاستيراد» باعتبارها نموذجا مثاليا استثنائيا وفريدا، لإنشاء شركة تجارية ناجحة تدعم الوضع المالي والنفوذ السياسي- وربما العسكري- لمصر في قارة صعبة الاختراق كأفريقيا.
ولعل صدور كتاب «تجربة للتاريخ.» أسرار لم تنشر من قبل عن تجربة شركة «النصر للتصدير والاستيراد» للمؤلف د.باسم عادل في هذه الأيام العصيبة التي عاد فيها الحديث مجددا عن أهمية وجود دور مصري واضح في أفريقيا، أمر يحمل دلالات كثيرة، خاصة أن الكتاب - الصادر عن دار إنارة- هو بالفعل أول دراسة ضخمة توثق تجربة شركة النصر في أفريقيا، وقد تشارك في تقديمه مجموعة من المهتمين بالأمر والمتصلين بالتجربة منهم السيد محمد غانم رجل المخابرات الشهير ومؤسس وأول رئيس لشركة النصر للتصدير والاستيراد، والذي اعتمد المؤلف عليه بشكل أساسي- وربما وحيد- في تسجيل صفحات ذلك الكتاب المهم.
تأسست شركة النصر للتصدير والاستيراد في عام 1958 كشركة قطاع خاص صغيرة برأسمال 25 ألف جنيه ثم تأممت مع ما تأمم في مصر من شركات عام 1961 وزاد رأسمالها إلي مليون جنيه.. وهنا بدأ نشاطها الحقيقي.
بعد ست سنوات فقط من هذا التاريخ، أصبح لشركة النصر للتصدير والاستيراد 25 فرعا في أفريقيا وأوروبا والبلاد العربية، وفي السنة التالية لذلك أصبحت تمتلك أسطولا للنقل البحري بحمولة 215 ألف طن، وفي أواخر الستينيات أصبحت الشركة حسب تقدير جامعة ألينوي الأمريكية واحدة من أهم 600 شركة علي مستوي العالم، وقد وصل عدد العاملين فيها إلي 3500 موظف، فيما اعتبرها بنك «أوف أمريكا» الشهير أنها بالنسبة لدول حوض المتوسط تعادل شركة ميتسويشي العملاقة في الحجم والقوة الائتمانية بالنسبة لليابان.
في عام 1958 عاد السيد محمد غانم من بيروت بعد أن قضي هناك ثلاث سنوات في عملية مخابراتية مناهضة لحلف بغداد، وذلك عبر غطاء شركة «النيل للإعلانات» التي عمل مديرا لفرعها في بيروت، عندما عاد غانم إلي مصر، كان يريد أن يحظي بشيء آخر غير الغطاء الدبلوماسي يمكنه من القيام بعمله ذي الطبيعة السريه خاصة أن اسمه في عالم المخابرات كان معروفا لكل الأجهزة الغربية، جاءت في ذهنه فكرة تأسيس الشركة التي اتخذها غطاء لعمله، النصر، ولأنه كان يحظي بدعم الرئيس عبد الناصر شخصيا استمر في مشروعه الطموح، الذي أصر أن تكون تسميته شركة «النصر للتصدير والاستيراد» بنفس هذا الترتيب «التصدير» قبل الاستيراد، وذلك بهدف أن تشكل هذه الشركة انفتاحا لمصر علي أسواق العالم.
إلا أن كتاب «تجربة للتاريخ..» يتوقف عند نقطة علاقة شركة النصر بجهاز المخابرات قائلا: «تذكر بعض المؤلفات أن هذه الشركة هي إحدي شركات المخابرات المصرية وسواء نختلف أو نتفق مع هذا الرأي فإن هناك ما لا يمكن الإفصاح عنه لمبررات تخص الأمن القومي، ولكن ما أكده محمد غانم في حواراته ولقاءاته المتعددة معي أنه طلب قطع علاقته بالمخابرات بمجرد أن تولي رئاسة الشركة بل أنه طلب من الرئيس عبد الناصر شخصيا ألا يتصل به أحد وألا يتم تكليفه بأي عمليات من قبل جهاز المخابرات منذ بداية الشركة عام 1958.
في هذا التوقيت- بداية الستينيات- كانت أفريقيا كلها تحت الاحتلال باستثناء مصر وليبيا وتونس والمغرب، وكانت القارة السمراء مغلفة بالاستعمار والفقر والمرض، ومغلقة علي سفارات أربع دول فقط ..أمريكا وبريطانيا وفرنسا و.. إسرائيل طبعا، ويبدو أن ذلك الوضع المعقد هو ما استفز السيد محمد غانم فقرر اختراق قارة أفريقيا ومواجهة الأعداء هناك،.. وكانت البداية بأفريقيا الاستوائية قبل أن تتوسع الشركة لتمارس نشاطها في 25 دولة أفريقية أخري، ويرصد الكتاب خطة التوسع الفذة في فروع الشركة قائلا :"كان الرعايا الأجانب من الدول الاستعمارية يرغبون في تصفية ممتلكاتهم بالدول الأفريقية المحتلة استعدادا للعودة إلي أوطانهم وذلك عن طريق بيعها بشرط قبض الثمن في أوروبا حيث كان من غير المضمون بالنسبة لهم الخروج بأي أموال من الدول الأفريقية المستقلة حديثا.. واستغلت شركة النصر هذه الفرصة لشراء الأراضي والعقارات التي أصبحت فيما بعد مقرات للشركة في قلب أفريقيا ومنها بناية شركة النصر العملاقة في أبيدجان -عاصمة كوت ديفوار- وقد تحمس رئيس البلاد لهذا المشروع لدرجة أنه شارك في وضع حجر الأساس للمبني وشارك في افتتاحه ومنح السيد محمد غانم وساما رسميا بدرجة رئيس وزراء"، يذكر الكتاب في موضع لاحق أن رئيس الوزراء عاطف صدقي أراد بيع ذلك المبني في أبيدجان بمبلغ بعيد جدا عن قيمته الحالية التي تقدر بالمليارات وذلك بحجة "سداد ديون الشركة"، وأن السيد محمد غانم قاد معركة في مجلس الشعب- وهو ليس نائبا فيه- لمنع هذه «الكارثة».. ونجح في ذلك والحمد لله.
ويسرد الكتاب العديد من الصفقات العقارية التي نجحت في تنفيذها شركة النصر في وقت شديد الحساسية ضاربا المثل بـ"مبني شركة النصر" في دولة النيجر الذي كان أول مبني في البلاد يصل ارتفاعه إلي 8 طوابق مزودا بمصاعد كهربائية، في وقت كان أقصي ارتفاع فيه للمباني في النيجر طابقين فقط!، ويصل اعتزاز أهل النيجر بدور شركة النصر إلي يومنا هذا إلي حد أنهم يضعون صورة مبني شركة النصر علي كروت الترويج السياحي للنيجر!- وحمد لله أن حكومة عاطف عبيد أو أي فمن يتبعه لم ينتبه لذلك المبني فلم يحاول بيعه هو الآخر!.
لم تكن فرنسا هي المنافس الشرس الوحيد لشركة النصر في أفريقيا، إسرائيل كانت موجودة وبقوة طبعا، حتي أنها أسست شركة باسم «ديزنيكوف» لتقوم بنفس الأنشطة التي تقوم بها شركة النصر في أفريقيا، وفي أرض نيجيريا دارت معركة تنافسية قاسية وشديدة بين الشركتين. أما الدور الذي لعبته شركة النصر في مد حركات التحرر في أفريقيا بالسلاح، فهذه قصة أخري مليئة بالبطولة والشجاعة، والتخطيط الذكي من قبلهما، فبعدما توسع نشاط شركة النصر وتغلغل في قلب أفريقيا قامت بتأسيس أسطول بحري ضخم يجوب القارة، ثم استأجرت مخزنا للصوامع في ميناء الإسكندرية وهناك كانت تصل العربات المصفحة والمجنزرات والأسلحة، فتدخل مخزن جمرك الصوامع ثم يجري عليها تغييرا كاملاً في هيئتها فتخرج من بوابة المخزن علي هيئة جرارات زراعية ومعدات هندسية، يتم تحميلها علي بواخر أسطول شركة النصر، التي تضع حمولته الثمينة هذه في موانئ غير رئيسية في القارة لتجد مراكب تعرف باسم «الكوستر» - وهي مراكب صغيرة الحجم حمولتها 50 طنا- في انتظارها لتحمل الأسلحة المخفاة، وتلقي بها علي الشواطئ في نقاط محددة ومتفق عليها مع ثوار أفريقيا، ويؤكد السيد محمد غانم أن مثل هذه العمليات كانت تتم بتكليف مباشر له من الرئيس عبد الناصر، مؤكداً بذلك علي انفصال شركة النصر عن نشاط المخابرات الرسمي.
يمر الكتاب سريعا علي قصة خروج السيد محمد غانم من شركة النصر عام 1975 عبر استقالة لم يقدمها هو مطلقا!،ولا يقف من الأساس عند حال الشركة الآن مكتفيا بالقول بأن موقعها الإلكتروني الحالي لا يعبر عن حالها وتاريخها.. ليت الأمر يقف عند موقعها الإلكتروني فقط ولي موقعها في أفريقيا!.