العدودة فن له مذاق.. وسحر
"أنا سيد الوداع
يا عود طرى واتلوى
ميل ومال ع الأرض
امبارح كان فى وسطنا
والليلة تحت الأرض"
العدودة تطلقها دائمًا "الندابة" أو "المعددة"، وهى المرأة المتخصصة التى تحفظ المواويل الشجية فى وداع الراحلين، وهناك العدودة التى تنطلق فى وداع صغير السن، وهناك عدّيد للكبار وللمرأة المسافرة والرجل المسافر، والذى كان مريضًا والذى لم يمرض والمخطوف فجأة.
وهى حالة استوقفت الكثير من الباحثين وأفاضت الدراسات الاجتماعية والنفسية والانثروبولوجية فى الوقوف على سر الإنشاد الحزين وما يحمله من شحن حقيقى وإحساس عارم بالفقد والغياب، ومشاعر تجهش فى وضح النهار، إنها عادة عجيبة ابتدعها المصريون فى وداع الراحلين والغائبين، واشتغلت عليها مراكز الأبحاث المتخصصة، وتم جمع كثير من ألوان العدّيد وأنواعه.
"جايلك عروسة محنية الكفوف والكعب
خدت معاها الهنا وسابت وجع القلب"
ومن خصائص الندّابة أن تكون قوية الصوت وقادرة على السيطرة على عشرات السيدات اللائى يحطن بها، فعندما تودع الزوجة زوجها تخاطبها الندابة بمواويل شجية حزينة، تتنوع فيها المقامات الموسيقية، فهى تتكلم بلسان الزوجة، وماذا تفعل الزوجة المكلومة بعد فقد زوجها بالندب والعويل، وهنا يأتى دور الندابة لتحمل عن الزوجة عبء إرسال أناشيد الوداع.
ولا تزال الندابة موجودة فى بعض المناطق الشعبية وفى الريف وأوساط الفقراء تقدمة العديد وتتقاضى الأجر الزهيد وتتنقل بين مأتم وآخر بملابسها السوداء وصوتها الحزين.
"من يوم فراقك والشاى فى دارنا بطلناه
وشايك مع الحفار شيعناه".
"يا قبر جايلك شاب زين
خايل فى لف العمامه
علشان خاطر نبينا الزين
يا رب تغفر له يوم القيامة"
-----------------------------------------------------------------------------
الطريف أن تلك البكائيات لا تذكر اسم المتوفى (رجلا أو امرأة), وهذه الملاحظة لها ما يبررها: فذكر اسم المتوفى قد يماثل أحد الأحياء وهو فأل سيء.. من المعتقدات الطوطمية أن ذكر اسم الميت يزعج المتوفى لأن الاسم جزء منه.. ربما ذكر الاسم يزيد من حدة الإحساس بالفقد وبالألم بالتالي.
كما تتنوع البكائيات من خلال نظرة المرأة إلى الميت.. هناك ما يخص الزوج, ثم الأب, ثم عديم الخليفة أو قليل الخليفة (وهو الرجل الذي تزوج ولم ينجب ولدا أو بنتا, وقليل الخليفة هو الذي أنجب بناتا فقط), ثم بكاء العريس. وتلك هي البكائيات التي تشكل "ديوان الرجل".
أما ديوان المرأة فيتشكل من البكائيات التي تخص كل من.. الأم, السيدة قليلة الولد (أي التي أنجبت بناتا فقط), ثم عديد العروسة.
أما الديوان الثالث فهو متعلق بأسباب أخرى وخصيات أخرى قد لا تنتسب إلى السيدة التي تقوم بالعديد.. فهناك عديد القتيل, وعديد الغريب.
ويوجد ديوان لا يقل أهمية عما سبق, هو ديوان المواجع والذكريات, حيث تتذكر المرأة وتشكو وحدها أو وسط مثيلتها ببكائيات خاصة.. مثل عديد اليتم, وعديد الحزن من حيث هو إحساس داخلي لديها بالحزن, وربما تتذكر عزيز لديها فقدته منذ سنوات.
قد يبدو من الواضح الدور الخفي الظاهر للمرأة في هذا اللون من الفنون الشعبية, سواء بصعيد مصر أو في فلسطين والشام عموما والعراق وغيرها من المناطق بالوطن العربي:
.. لا يردد هذا الغناء الحزين سوى المرأة.
.. النصوص تكشف عن علاقة الميت براوية العدودة, وكأن ما كانت للميت علاقات أخرى مع آخرين.
.. واقع الحال يكشف عن دور متوارث للمرأة في تحفيظ وتلقين البنات من أسرتها أو الأسر الأخرى بأسرار هذا اللون من الفنون.
ربما البكائية التالية تكشف عن مدى دور المرأة, ففي بكائية على "الأخ" الذي هو في مكانة (لعلها) أعلى من الزوج لأنه السند والعون, تقول البكائية:
"وين الخية (أين الأخت)
هاتوها (أحضروها)
اتشيل الطين (لتضع الطين على رأسها وصدرها تعبيرا عن الحزن)
على أخوها
وين الخية
وين هيه (أين هي)
أنشيل الطين (لنضع الطين على رأسينا)
أنا وهية (التي تغنى والأخت معا يضعا الطين)
لقد حرصت المؤسسات الرسمية والمهتمة بالفن الشعبي على رصد هذا اللون من الغناء الحزين الشعبي, بل وهناك من توالى المهمة بطموحاته الخاصة واهتمامه بالعديد.. إلا أن الجميع أكد على استحالة جمع وحصر كل قيل وما سيقال فيه, نظرا للإضافات والمكتسبات اليومية من امرأة إلى أخرى, ومن بلدة إلى أخرى, كحال كل الفنون الشعبية.
د السيد نجم
------------------------------------------------------------------------------
منقول للاهمية وبتصرف