حَفاوة العُلمَاء بعَالم الأوليَاء :
وكان رحمه الله تعالى ، من الذين يقال فيهم : " من كانت له فكرة ، كانت له بكل شيء عبرة " . فكان إذا ظهر الصباح ، قال : " النهار من آثار صفات الجمال لله عز وجل " ، وكان لا يترك صغيرة ولا كبيرة ، إلا ويوجهنا إلى الحكم الشرعي ، والأدب مع الله تعالى فيها . وإني لأذكر إذ كنت واقفاً تلقاء قدميه الشريفتين ، أدلكهما لآلام حلت بهما من طيلة المكث في السرير ، فأشار إليَّ بالتنحي عن وجهة قدميه ، لأن القلم الذي أحمله في صدري ، أصبح قبالة قدميه الطاهرتين ، وهذا لا يليق بالقلم ، مشيراً إلى القلم الذي ذكره الله تعالى في اللوح المحفوظ ، وتأدباً مع سلاح العلم والعلماء .
قبَيل العَودَة إلى حماة :
ثم أخذت صحته تسير نحو الإنحدار شيئاً فشيئاً ، وهو آسف لذلك أشد الأسف ؛ يتمنى أن تكون صحته في حالة تسمح له بقيام الليل ، وعبادة الله تعالى في جوفه ، وذلك عندما كان يفيق أثناء الليل إفاقات متقطعة . ولشد ما كان حزنه وأسفه ، يتضاعف إذا سمع نداءات المؤذن يدعو إلى صلاة الجمعة ، فيبكي ويقول : " أنا كنت أجمع الناس للجمعة وأخطبهم ، وأنا الآن لا أستطيع أداءها . والله إنها لحرقات في قلبي " .
وَدَاعُهُ الدّنيَا :
و قبيل عودته إلى حماة ، ألمت به وعكة شديدة ، قال لي خلالها : إنه سوف ينزل إلى حماة بعد خمسة أيام إن شاء الله تعالى . وعلى أثر هذه الوعكة ، عزف عن الطعام والشراب ، وذكر الأصحاب والأحباب ، كأنه قد ودع هذه الدنيا ، فاتجه بقلبه إلى ربه ، لا يشرك أحداً في حبه ، مازجاً مرارة الألم بحلاوة الإيمان ، فأشهد أنه راضٍ عن ربه سبحانه وتعالى.
العودة إلى حماة :
السبت 16 صفر لعام 1389هـ الموافق 3 أيار 1969م .
وبالرغم مما كان يعانيه فضيلة مولانا ، قدس الله روحه الطاهرة ، من ضعف بالجسم ، وشدة في المرض ، فإني لم ألحظ عليه أنه فقد وعيه وغاب عن الدنيا ؛ بل كان مالكاً لوعيه ، لكنه لا يستطيع النطق بسبب ضعفه الشديد ، وقد سافر إلى حماة في اليوم الثاني بعد تلك الوعكة ، بعد أن يئس الطبيب من العلاج ، وفوض أمره إلى الله تعالى ، فقال : " هو أرحم به منا " وودعه أهل المستشفى ، والمحبون في بيروت بين باك عليه - رحمه الله تعالى - وفارغ الفؤاد ملتاع على فراقه . كما استقبل أهل بلدته نبأ قدومه المفاجئ بالذعر والهلع .
إلى جوَار الرَّحمن :
وفي يوم الاثنين الثامن عشر من صفر عام تسعة وثمانين وثلاثمائة وألف هجرية . الموافق الخامس من أيار لعام تسعة وستين وتسعمائة وألف ميلادية ، في الساعة الثامنة وثمان دقائق زوالي تقريباً ؛ أي بعد صلاة العشاء بقليل ، بعد أن تليت عليه سورة ياسين ، ووصل القارئ إلى الآية الكريمة :
( الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، طوبى لهم ، وحسن مآب )
من سورة الرعد ، فاضت روحه الشريفة رحمه الله تعالى إلى بارئها ، وأنا أقرب الناس إليه ، أرطب فمه الشريف بالماء ، وأشتم منه رائحة العطر الزكية ، وإني لأرى النور يتلألأ من وجهة الشريف كالبرق المتلاحق ، فكان والله أجمل ما رأيته في حياتي ، وقد عمّ الجميع صمت سكنت فيه قلوبهم وجوارحهم ، بما أفاضه الله عليهم من سكينة وروح ، وكأنها عاجل بشراهم له في رحمة الله ورضوانه وفسيح جناته : ( يا أيتها النفس المطمئنة . ارجعي إلى ربك راضية مرضية . فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ) .
تشييعُ الجثمان الطاهِر :
ونعته نشرات الأنباء إلى العالم الإسلامي عدة مرات ، وضجت مآذن حماة وحمص في اليوم الثاني بالتهليل والتكبير ، وإذاعة النبأ على الناس ، وقد حضرت الجموع الغفيرة من أهل العلم وغيرهم من أقاصي البلاد ، وبعد صلاة الظهر ، أذيع على جميع الناس من مآذن حماة المقالة التالية : " يا أيها الأخوة المؤمنون ، من كان له حق على فضيلة الشيخ محمد الحامد رحمه الله ، فليتقدم به إلى أهله ، وذلك بناء على وصيته " .
رحم الله الفقيد رحمة واسعة ، وإني لأشهد أنه كان راضياً عن ربه ، كثير الاتهام لنفسه ، يعتقد أن المرض كفارة لذنبه ، لارفعٌ لدرجاته ، وأن طلبه للمعالجة الطبية ، لم يكن بسبب حبه لهذه الحياة الدنيا ، بل ليستعيد صحته ونشاطه ؛ حتى يتابع رسالته في نشر العلم والدعوة إلى الله تعالى . وكأنه أدرك حاجة المسلمين إلى علمه النافع ، لكنه لما شعر أن أمنيته هذه أصبحت متعذرة ، سمع منه بعض أولاده ، ما يشير إلى أنه أحب لقاء الله تعالى ، ومغادرة هذه الحياة الدنيا التافهة ، متمثلاً قول شيخ سيدي أبي النصر النقشبندي رحمه الله تعالى في آخر حياته ، وقد ضعف عن العمل : " من لا يعمل خيراً في هذه الدنيا فالموت خير له " .
خاتمـــــــــــــــة :
فأنت ترى مما تقدم ، أن مولانا - قدس الله سره - من أولي العزم من الأولياء ، صوفياً قطباً ، ليست له شطحة ، قهر أحواله حتى استولى عليها ، فاستوى متمكناً على عرش الإرشاد كاملاً مكمِّلاً ، كنت أفتقده وهو حي ، وأشتاقه وهو أمامي ، وأحن له وأنا قريب منه .
رحمه الله رحمه واسعة وإنا لله وإنا إليه راجعون .
الشيخ عبد الحميد طِهماز