خالد جمال عبد الناصر
فى الأيام الأولى من حقبة الثمانينات التأمت الأسرة فى قاعة السينما فى الدور الأرضى من بيت منشية البكرى. وقاعة السينما بالأصل صالة طعام رئيسية كان يستضيف فيها الرئيس ضيوفه الكبار على موائد العشاء. جلست أمى تحية كاظم وحدها على كرسى فى الصف الأول، وجلست فى الخلف مع زوجتى داليا فهمى، وكان معنا شقيقاى عبدالحميد وعبدالحكيم بصحبة زوجتيهما إيمان ونجلاء، كانت أحاديثنا فى ذلك المساء عادية حول بعض شئوننا الاجتماعية، ولم نتوقع أننا بصدد حادث عاصف بالمواجع القديمة. أخذ عامل السينما عبدالعظيم يستعد لعرض شريط سينمائى حديث، ولكنه أخطأ فى الشريط وفوجئنا بالعرض يبدأ، وصورة أبى على غير انتظار تطل على الشاشة ومشاهد الملايين الملتاعة تزحف خلف نعشه بأنشودة وداع صاغتها بعفوية الوادع يا جمال يا حبيب الملايين. الشريط السينمائى عنوانه أنشودة الوداع للمخرج على عبدالخالق. شيء أقرب إلى الصاعقة ضربنا. أمى غرقت فى بكاء مرير بصوت مرتفع، ومع بكاء أمى أخذتنا الدموع إلى مدى بعيد لم نتصور منذ لحظات، وبعد عشر سنوات تقريبا من وفاة أبى، أننا سوف نذهب إليه.. كأنه مات الآن، كأننا فقدناه الآن، شعرنا بحسرة الفراق، وكما لم يحدث من قبل، لم استطع متابعة الشريط السينمائى وغادرت القاعة مسرعا.ا
بقميص أزرق طويل وبنطلون رمادى خفيف فى قدميه وقف أبى ذات مساء من الصيف الأخير فى شرفة واسعة على يسار استراحة المعمورة فى الإسكندرية، الاستراحة تواجه البحر مباشرة، كنا فى مطالع الصبا، نلهو على البحر، وأبى يتابعنا من بعيد، ويتمشى أحيانا فى البلكونة، وأحيانا ينزل للتمشى على البحر. كان يشاور لنا من بعيد، ونحن نرد التحية بحماسة، كنا متعلقين به بصورة لا تصدق، كانت مشيته فى الصيف الأخير تبدو عادية أو لعله أراد بعناده المعروف أن يتحدى المرض، وأن يخفى آلامه عنا، وأن يبدو طبيعيا، بدت حالته الصحية بالنسبة لى تحت السيطرة، لم يكن هناك ما يقلق ولا خطر فى بالنا أن هذه آخر أيامنا مع جمال عبدالناصر، غير أن ضغط الأحداث عليه، من الاستعداد لتحرير الأراضى المحتلة بقوة السلاح إلى مجازر أيلول الأسود أخذ ينال من صحته ويضع قلبه فى مرمى نيران النهاية.
ذات مرة قال لى لن يتركونى أبدا، ونهايتى إما مقتولا أو سجينا أو فى مقابر الغفير كان يدرك أن القوى العاتية التى حاربها سوف تحاول الانتقام، وأن الانتقام سوف يكون مريعا، وعندما حدثت هزيمة يونيو كان تصوره أن طالب الناس بشنقه فى ميدان التحرير، فإذا بالملايين يخرجون مطالبين القائد المهزوم بالبقاء، وكما لم يحدث فى التاريخ من قبل.
كنا على مائدة غداء ذات يوم عام 1970، ولسبب ما قلت: مضت ثلاث سنوات وكنت أتحدث عن موضوع شخصى مضت عليه هذه الفترة، التفت عبدالناصر تجاهى، قال وكأنه يحادث نفسه:ثلاث سنوات؟!. كانت هذه السنوات قد مضت على النكسة.. لم ينس أبدا هذا الجرح.
مارس 1969، استشهد الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المصرية على جبهة القتال الأمامية، صدمة عبدالناصر باستشهاد رياض بدت صاعقة كان يراهن على الجنرال الذهبى فى تحرير أراضينا المحتلة بقوة السلاح تحت وابل من النيران وأفق مشتعل بالنار ثقته بالكفاءة العسكرية لرياض كانت بلا حدود، لكنه شعر أيضا بالفخر لاستشهاد رئيس أركان حرب القوات المسلحة على جبهة القتال، مصر تغيرت، ونفضت ثياب الهزيمة بإرادة المقاتلين وبدماء الشهداء، وهو المعنى الذى التقطته مئات الألوف التى خرجت تودع رياض فى جنازة مهيبة اخترقت ميدان التحرير من جامع عمر مكرم. أصر الرئيس على أن يتقدم صفوف الجنازة وتحدى إجراءات الأمن وأزاح رجال الحراسة وذاب وسط الجماهير، كان لديه إيمان صوفى بالجماهير، يشعر بالتوحد معها، وبأنه فى مأمن تماما بحمايتها، رجال الأمن أصابهم الفزع، اقترب أحد ضباط الحراسة من الرئيس بصعوبة شديدة وقال: يا فندم كفاية كده نهره عبدالناصر بيده ومضى فى الجنازة حتى نهايتها متأثرا بهتاف الشعب.. رياض ما متش والحرب لسه مانتهتش
حتى الآن.. ورغم مضى كل هذه السنوات الطويلة يساورنى شعور طاغ بتقصير الأطباء فى علاج الرئيس إلى حد كبير، حاولوا إرضاء الرئيس على حساب صحته، وقد تفرض أجندة الالتزامات أن يلقى خطابا جماهيريا أو يعقد اجتماعا سياسيا فى ظل أزمة صحية تستدعى أن يستريح. يقول للأطباء: عاوز أروح أخطب فيلتزمون بما طلب دون مناقشة أو اعتراض، يعطونه مضادات حيوية من أقوى جرعة ممكنة، وفى اعتقادى أن هذا النوع من العلاج بتسكين الآلام لمقتضيات السياسة هو أقرب إلى سوء استخدام تكنولوجيا المضادات الحيوية، وقد أنهك صحة أبى بصورة خطيرة. ليس من واجب الطبيب أبدا أن يستجيب لطلبات المريض، حتى ولو كان رئيس الجمهورية، ليس من واجب الطبيب حين يقول له الرئيس:تعال ادينى حقنة ريفالين أن يكون الرد الفورى حاضر لا أغفر لأطباء عبدالناصر هذا التساهل المفرط فى مقتضيات العلاج.ا
السيرة الصحية لوالدى ترتبط بتواريخ السياسة.. أثناء الحصار الاقتصادى الذى فرضه الغرب على مصر أصابه مرض السكر عام 1958 بعد نكسة 67 نالت منه مضاعفات السكر بصورة خطرة، إرهاق العمل المتواصل فى الليل والنهار لتحرير الأراضى المحتلة بقوة السلاح أصابه بأزمة قلب، وأزماته الصحية كان يمكن باستمرار تداركها، مضاعفات السكر تمت السيطرة عليها، أما الإرهاق وتحدى أوامر الأطباء بالراحة فلا سبيل لتداركهما، من عرف عبدالناصر فى تلك الأيام كان يدرك بسهولة أنه غير مستعد للنوم مرتاحا أو الاستمتاع بأى شيء قبل إزالة آثار العدوان. ا