سيل النهار ليس أرحم من سيل الليل، كلاهما مخادع، إلا أن بالليل دائما تكون أسلحة
السيل أكثر شراسة.. هو دائماً يبدأ بالحرب، يلقى الرعد والعواصف والبرق ثم يرتاح..
عجائز القرى الذين يؤرخون الأيام بالسيل، يروون أن السيل مقاتل شرس لا يتخلى عن
مكانه، ولابد من ضحايا وخوف يعترى البشر لقدومه، كأنه يصنع احتفالات قدومه بما
يختاره، فهو يريد أن يزف نفسه لعروسه التى تتلقى قدومه بصخب.
بالأمس الأربعاء الكل خاف.. ألقت السماء ثلوجاً فاتخذها الأطفال لعبة، والفائز من يهشم
أكبر قدر ممكن من الثلج ويبلعه بقوة.. ولكن النتيجة أن الأطفال الخمسة الذين اشتركوا
باللعبة المدهشة والصعبة خسروا جميعا ووجدوا أنفسهم أمام طبيب أمراض الباطنة.
الدكتور بخيت قال لـ"بوابة الأهرام": لا نستطيع أن ندين البراءة، فالبراءة فى أغلب
الأحوال تؤذى نفسها، والثلج الملوث بثانى أكسيد الكربون يماثل ألعاب البلى وأغطية البيبسى كولا التى غالباً ما نقوم بإجراء عملية لإخراجها.
فى السوق الشعبى لقرية أبو مناع بحرى والتى تضم مجمل قرى ونجوع يتخذها السيل
مهبطا له، ستفاجؤك حكاية "عباس الخسران".. يقول: "اشترى بطاطس والله خسارة يا عباس".. "اشترى طماطم والله خسارة يا عباس"..
السوق الذى يأتيه الباعة الجائلون من جميع القرى والمراكز مثل السمطا المشهورة بالموز والغلال، ونجع حمادى المشهورة بالخضراوات، يحتم قانونه هنا افتراش الأرض من
مساء الأربعاء من كل أسبوع لحجز مكان، ومن لا يأتى الأربعاء لن يجد مكاناً. عباس بائع الخضراوات بنجع حمادى والذى اعتاد المجىء للسوق منذ 30 عاما، أتى بالكرنب
وافترش الأرض لتنهمر المياه على بضاعته، ليخسر الكثير، ليقوم الرجل بوضع الطين على وجهه، ويلطم على خدوده.. و"الله خسارة يا عباس".. خسر عباس الكثير، لكنه كسب
اسمه فى أفواه الباعة الذين دخلوا فى شجار لاقتناص مقعد طينى وليس مقعد فى اليابسة.
فى مدينة دشنا الخالية من الصرف الصحى أو بالتحديد المعطل منذ 5 سنوات وحتى الآن،
تقوم الجمعيات الأهلية بمنح قراها مراحيض صحية، ولكن المياه التى غطت الشوارع بارتفاع كبير أفشلت العربات فى كسحها.
ومع المياه تظهر أزمة الموظفين، هيثم محمود قال لـ"بوابة الأهرام": المسافة التى كنت أسلكها فى ربع ساعة سلكتها اليوم فى ساعة إلا ربع، وعلى كل إنسان أن يتخذ أساليبه
الخاصة فى العبور، فمياه الأمطار غطت جميع الأماكن، حتى الميدان الموجود بالقرب من مركز الشرطة.. فاليوم لا نجاة منها.
متى تأتى الشمس؟ سؤال يردده سكان منازل الطين الذين يتمنون جفاف هذه المياه كى لا تهبط على رؤوسهم، حتى المرضى كى تقلهم العربات من الحارات الضيقة، فهؤلاء
المرضى يضطر الأبناء لحملهم على أكتافهم للوصول إلى مكان عربة لا تستطيع أن تسير فى الحارات التى غطتها المياه والطين إلى مكان بعيد اسمه البندر، فالقرى التى تعانى من
الكوارث مسلوبة من حقها فى المستشفيات، ووكل ما تملكه وحدة صحية بطبيب واحد.
بالأمس عادت الحياة البدائية، فالقرى التى يعشقها السيل كقرى نجع سعيد ونجع عبد القادر التى مازالت حتى الآن تتذكر جبروت سيل 94، قامت بما قام به الأجداد، ألقت بالبهائم
للخلاء، واستكانت لصوت القدر أو على ما يبدو كانت تناجى السيل أن يهبط دون أن يقوم باحتفالاته الصاخبة، لكن السيل الذى ألقى بنفسه بالأمس ليلا يريد أن يكرر فعلته اليوم،
فهل تظهر الشمس؟
بقلم : محمود الدسوقى بوابة الاهرام الالكترونية