في مصر نهران: أحدهما النيل يمدها بالماء، والثاني يمدها بمدد لا ينضب من المنشدين والمقرئين، ومثلما يمكننا القول بأنها بلد النيل وهبته فهي أيضا دولة التلاوة والإنشاد والابتهالات والتواشيح. وفي كل مناسبة دينية وخاصة ذكرى ميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم تقام الاحتفالات الدينية ويولد مبتهل ومنشد جديد. وقد يكون هذا المنشد مختفيا وبعيدا عن الأنظار حتى تأتي اللحظة المناسبة لتذيع شهرته ويعلو صوته.
وإذا كان هناك منشد أحق بالشهرة فهو الشيخ عبد العظيم العطواني منشد قصيدة البردة المعروفة؛ إحدى أشهر قصائد المديح النبوي، إن لم تكن أشهرها جميعا، وهي القصيدة التي بوأت لصاحبها شرف الدين البوصيري -بما حظيت به من مكانة لا تنافسها فيها سوى البردة الأم لكعب بن زهير- إمامة فن المدائح النبوية، وقد اقترن العطواني بها، فصار لا يعرف إلا بها ولا ينشدها إلا هو، ولولا بعده عن وسائل الإعلام وإصراره على البقاء في صعيد مصر لكان من أشهر المنشدين.
صاحب البردة.. نشأة دينية
شاهد واستمع :
للبردة بصوت الشيخ عبد العظيم العطوانى 1 - 2
اسمه عبد العظيم أحمد سليم، وشهرته عبد العظيم العطواني؛ نسبة إلى قرية العطواني؛ وهي إحدى أشهر قرى مركز "إدفو" بمحافظة أسوان جنوب مصر. وكعادة أبناء قرى صعيد مصر التي ما زالت تحتفظ بكيانها وتقاليدها العريقة وثقافتها المتميزة.. كانت بدايته في كتاب القرية أحد أهم مظاهر التمسك بالدين والعتبة الأولى والأساس نحو مدارج العلم المختلفة. فكانت الخطوة الأولى للشيخ عبد العظيم تعلم أحكام القرآن الكريم وحفظه كاملا مجودا، وقد لمس شيخ الكتاب إمكانات العطواني، فدفعه إلى أن تكون الغاية والوسيلة هي كتاب الله وأحكام تجويده وما استتبع ذلك من خطوات تمثلت في ترحاله للاستزادة من دراسته للقرآن حفظا وتجويدا وأحكاما، وكان الشيخ البطيخي الذي تعلم على يديه الشيخ محمد صديق المنشاوي أحد أبرز معلمي الشيخ العطواني في فترة صباه.
ولعله من المناسب هنا أن نذكر أن أبناء صعيد مصر لهم ذوقهم الراقي والرفيع في الاستماع إلى القرآن الكريم والابتهالات الدينية، ولهم الموهبة الفطرية في التواصل مع قارئ القرآن الذي يتمكن من أفئدتهم بإجادته وتجويده، وإعمال الأحكام بمهارة وحرفية يبرزها ما يملك القارئ والمنشد من ملكات صوتية تمكنه من الغوص في بحار القرآن العظيم بسهولة.
هذا التواصل بين القارئ والمستمع خلق نوعا من الحميمية والصداقة بين صوت القارئ والمجتمع الصعيدي؛ بحيث أصبح من الصعب أن تكون مجيدا ومسموعا إذا فقدت هذا التواصل الروحي مع المستمع والمتلقي، هذا إضافة إلى أن بيئة الجنوب بما تحمله من هدوء واستقرار واطمئنان للنفس ومحبة وتعارف بين الناس -وهو ما يصعب أن تجده في مجتمع المدينة- يساعد على تنمية ملكات الاستماع والتذوق.
ومن هنا كانت الحميمية والتواصل بداية الارتباط الدائم بين المنشدين والجماهير؛ وهو ما وعاه الشيخ العطواني الذي لم يضع نصب عينيه الشهرة والانتشار؛ بل اهتم بالارتباط العاطفي بجموع المستمعين من أبناء الجنوب، وعلى الرغم من امتلاكه موهبة فريدة وإمكانات صوتية؛ فإنه لم يسع إلى الانتقال للإذاعة والتليفزيون؛ بل فضل عليهما التواصل المباشر مع أحبابه من المستمعين في الجنوب؛ حتى إنه رفض أن يرتحل إلى القاهرة مركز الشهرة والدولة، وفضل أن يوفي بالتزامه مع أبناء قريته، واعتبر ذلك أقوى من أي عقود مكتوبة.
انضم الشيخ عبد العظيم العطواني إلى نقابة قراء القرآن الكريم بعد أن قضى فترة طويلة يمارس القراءة في مناسبات عديدة، وكان ذلك منذ ما يقرب من ثلاثين عاما، وحين يُسأل عن مثله الأعلى من قراء القرآن يقول: إن مثله الأعلى هو القرآن ذاته؛ إذ ما من قارئ أجاد كتاب الله إلا كان ممن يحق الاستماع إليه، وإنه يتعلم من الصغير قبل الكبير في شأن تلاوة القرآن. ويقول: "القرآن الكريم حديقة غنّاء تزخر بأطيب الثمار والفاكهة، ولكلٍ مذاق وطعم، ولله الحمد فالجميع حلو المذاق. طيب الطعم، أدامهم الله وأكثر منهم".
حكايته مع البردة
وحين كان العطواني تلميذا في كتاب القرية كان من عادة شيخ الكتاب حين ينتهي من تعليم التلاميذ أن يختم لقاءه معهم بأنشودة دينية، وكانت قصيدة المديح النبوي للإمام البوصيري هي تلك الأنشودة التي يرددها التلاميذ كل مرة.. فراقت كلماتها للشيخ العطواني وهو في صباه، ولمست موسيقاها ثنايا أذنه، فحفظها عن ظهر قلب، وشجا بها بين التلاميذ دون أن يشعر، وسمعه شيخه فقال له: "لقد تملكت منك البردة وتملكت منها.. وعشقتها وعشقتك.. وامتلأ بها قلبك فخرجت من صوتك وكأنها لم تخرج من صوت أحد قبلك؛ فأنشدنا بها دائما".
ومنذ ذلك التاريخ صارت البردة ملازمة للشيخ العطواني مثلما صار هو معروفا بها، بحسب ما نسب لفضيلة الشيخ متولي الشعراوي رحمه الله من أنه سمع الشيخ العطواني يشدو بالبردة في تفرد ووجْدٍ، فقال: "كأنما وضع البوصيري البردة لينشدها العطواني"، وتشيع بين جمهور الشيخ العطواني ومحبيه هذه المقولة، ويروي بعض المقربين من الشيخ العطواني أنه زار المملكة السعودية فالتقى فيها الشيخ الشعراوي، فقال له وكانا في مكة المكرمة: "رأيت البوصيري يقبلك في جبهتك"، ومن شهود هذه الواقعة الشيخ محمد عارف تلميذ الشعراوي، والشيخ ممدوح المقدم سكرتيره الخاص.
يحكي الشيخ العطواني عن بداية علاقته بقصيدة البردة، فيقول: "كنت أطالع كتاب البردة للإمام البوصيري، وكنا نردد بعض أبياتها بعد انتهاء الدرس، وقد أخذني عشق المؤلف للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فأخذت أترنم بها بيني وبين نفسي حتى سمعني شيخي وطلب مني أن أرددها بين أقراني في الكُتّاب، وقد صنعت لها اللحن المعروف دون إيقاعات سوى ترديد السامعين لمطلع القصيدة، ومن هنا فقد وجدت أن الكثير قد أخذوا يسردون البردة بالطريقة التي صارت عليها، وهكذا أصبحت لا أقرأ القرآن في احتفال إلا وأتبعه بقصيدة البردة تلبية لطلب السامعين؛ حتى إن بعض هذه الاحتفالات يخصص لسماع البردة".
وعن السر في عشق الجماهير لسماع البردة يقول الشيخ العطواني: "الحق أن الجماهير لا تصبو إلى سماع البردة أكثر من سماع القرآن، ولكن الحقيقة هي أن جلال القرآن وعظمته كانت في إعمال قوله تعالى: "فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون". أما قصيد البردة وقد حوت ما حوت من فضائل رسولنا الأعظم في سياق نظمه البوصيري؛ فلها خصوصية ترتبط بما تتمتع به شعوبنا الإسلامية، وخاصة في مصر من عشق فطري لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فحين أبدأ في وصفه، وتحس الجماهير به تنقلب الكلمة إلى عاطفة جياشة، تهيج مشاعر الكثيرين بالبكاء أحيانا والاستحسان بطلب الإعادة كثيرا، وهي مواقف تلقائية تخرج عن دائرة الشعور والحس المدرك، ولعل في هذا السر الأعظم لالتفاف الأحباب حول ما يسمعون من سيرة وحياة وأخلاق خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم".
وكان من أهم من تأثر بهم الشيخ العطواني هو الشيخ محمد متولي الشعراوي عام 1983، وكانت أشرطة الكاسيت تحمل قصيدة البردة للشيخ العطواني قد انتشرت، وكان لقاؤه بالشيخ الشعراوي بحضور الشيخ محمد عبده يماني وزير الإعلام السعودي الأسبق، وكان الشيخ يماني من المرددين في الجلسة وراء إنشاد العطواني.