يقول الإمام العلامة نور الدين علي بن جمعة الشافعي مفتي الديار المصرية:
تمثل قضية قتل المرتد في الفكر الغربي إشكالية كبيرة ، فيظنون أن الإسلام يكره
الناس حتى يتبعوه ، ويغفلون عن دستور المسلمين في قضية حرية الاعتقاد التي يمثلها قوله تعالى : " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ" (البقرة:256)ـ
ويمكن النظر إلى قضية "قتل المرتد" من زاويتين:
الزاوية الأولى: هي النص الشرعي النظري الذي يبيح دم المسلم إذا ترك دينه وفارق الجماعة.(1)ـ
والزاوية الثانية: هي التطبيق التشريعي ومنهست اولج التعامل في قضية المرتد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك خلفاؤه رضوان الله عليهم.
فأما في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه - صلى الله عليه وسلم – لم يقتل عبد الله بن أبي ، وقد قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.(2)ـ
ولم يقتل ذا الخويصرة التميمي وقد قال له: اعدل فإنك لم تعدل.(3)ـ
ولم يقتل من قال له: يقولون إنك تنهى عن الغي وتستخلي به.(4)ـ
ولم يقتل القائل له: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله.(5)ـ
ولم يقتل من قال له: لما حكم الزبير بتقديمه في السقي أن كان ابن عمتك.(6)ـ
وغير هؤلاء ممن كان يبلغه عنهم أذى لهم وتنقص، وهي ألفاظ يرتد بها قائلها قطعاً لأنها اتهام للنبي – صلى الله عليه وسلم – بما في ذلك من تكذيب له بأمانته وعدله.
وقد كان في ترك قتل من ذكرت وغيرهم مصالح عظيمة في حياته، وما زالت بعد موته من تأليف الناس وعدم تنفيرهم عنه، فإنه لو بلغهم أنه يقتل أصحابه لنفروا، وقد أشار إلى هذا بعينه وقال لعمر – رضي الله عنه – لما أشار عليه بقتل عبد الله ابن أبي: "لا يبلغ الناس أن محمداً يقتل أصحابه".(7) ... ولم يستخدم ما أباحه الله له في الانتقام من المنافقين ومعاقبتهم كما ورد في سورة الأحزاب، قال تعالى:
"لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا* مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا*" (الأحزاب:60 ، 61)ـ
وكذلك ما رواه جابر بن عبد الله من أن أعرابياً بايع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا محمد، أقلني بيعتي، فأبى، فخرج الأعرابي، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – "إنما المدينة كالكير، تنفى خبثها، ويصنع طيبها".(
... فهو لم يقتله، فلماذا لم يقتل كل أولئك الذين يصدق فيهم قول ربنا:
" وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ" (التوبة:74)ـ
وأما في عهد الخلفاء، وبالتحديد في زمن الفاروق عمر – رضى الله عنه – ، فقد روي أن: "أنساً – رضى الله عنه – عاد من (تُستَر)، فقدم على عمر – رضي الله عنه – فسأله: ما فعل الستة الرهط من بكر بن وائل الذين ارتدوا عن الإسلام فلحقوا بالمشركين. قال: يا أمير المؤمنين، قوم ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين قُتلوا بالمعركة ، فاسترجع عمر أي قال: <إن لله وإنا إليه راجعون> – قال أنس: وهل كان سبيلهم إلا القتل؟ قال: نعم، كنت أعرض عليهم الإسلام، فإن أبوا أودعتهم السجن".(9) .... فلم ير أنه من الضروري قتلهم، رغم أنهم ارتدوا وقاتلوا المسلمين.
كل تلك الوقائع التي كانت في عهد التشريع، جعلت فقهاء المسلمين يفهمون أن مسألة "قتل المرتد" ليست مسألة مرتبطة بحرية العقيدة والفكر ، ولا مرتبطة بالاضطهاد ، وأن النصوص التي شددت في ذلك لم تعن الخروج من الإسلام بقدر ما عنت "الخروج على الإسلام" الذي يعد جرماً ضد النظام العام في الدولة، كما أنه خروج على أحكام الدين الذي تعتنقه الأمة، ويعتبر حينذاك مرادفاً لجريمة "الخيانة العظمى" التي تحرمها كل الشرائع والدساتير والقوانين.
ويرى الشيخ شلتوت شيخ الجامع الأزهر الأسبق – رحمه الله – أن قتل المرتد ليس حداً فيقول: "وقد يتغير وجه النظر في المسألة، إذا لوحظ أن كثيراً من العلماء يرى أن الحدود لا تثبت بحديث الآحاد، وأن الكفر بنفسه ليس مبيحاً للدم، وإنما المبيح هو محاربة المسلمين والعدوان عليهم ومحاولة فتنتهم عن دينهم، وأن ظواهر القرآن الكريم في كثير من الآيات تأبى الإكراه في الدين"(10)ـ
فـ"قتل المرتد" لم يكن لمجرد الارتداد، وإنما للإتيان بأمر زائد مما يفرق جماعة المسلمين حيث يستخدمون الردة ليردوا المسلمين عن دينهم فهي حرب في الدين كما قال تعالى:
"وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءَامِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا ءَاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ " (آل عمران:72)ـ
ويؤيد ذلك أيضاً ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية "أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبل توبة جماعة من المرتدين، وأمر بقتل جماعة آخرين ضموا إلى الردة أموراً أخرى تتضمن الأذى والضرر للإسلام والمسلمين، مثل أمره بقتل }مقيس بن حبابة{ يوم الفتح، لما ضم إلى ردته قتل المسلم وأخذ المال، ولم يتب قبل القدرة عليه.
وأمر بقتل (القرنيين) لما ضموا إلى ردتهم مثل ذلك، وكذلك أمر بقتل (ابن خطل) لما ضم إلى ردته السب وقتل المسلم، وأمر بقتل (ابن أبي السرح) لما ضم إلى ردته الطعن والافتراء.(11)ـ
ومما سبق يتبين لنا أن قضية "قتل المرتد" غير مطبقة في الواقع العملي المعيش، ووجودها في المصادر التشريعية لم يكن عقوبة ضد حرية الفكر والعقيدة، وإنما تخضع للقانون الإداري، والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه المسلم في صحيحه: ج3 ص1302
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: ج6 ص2636، ومسلم في صحيحه: ج2 ص1006
(3) أخرجه البخاري في صحيحه: ج3 ص1296، ومسلم في صحيحه: ج4 ص2140
(4) رواه أحمد في مسنده ، ج5 ص2
(5) أخرجه البخاري في صحيحه: ج3 ص1249، ومسلم في صحيحه: ج2 ص739
(6) أخرجه البزار في مسنده: ج3 ص184، والشاشي في مسنده: ج1 ص117، ورواه صاحب المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم: ج1 ص78
(7) أخرجه البخاري في صحيحه، ج6 ص2636، ومسلم في صحيحه، ج2 ص1006
(
أخرجه البخاري في صحيحه، ج6 ص2540
(9) سنن البيهقي الكبرى ، ج8 ص207
(10) الإسلام عقيدة وشرعية ، ص103
(11) الصارم المسلول ، لابن تيمية ص368